للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكيف تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أباها أن يدعهما، كما أرادت أن تراعي إنكار أبيها بوجود الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فجمعت بين المصلحتين بالغمز.

الفائدة الثّالثة:

ليس في الحديث حجة على من توسع في أمور الغناء والزمر، بل الواقع أن الحديث حجة عليهم لا لهم، ويتبين ذلك من استعراض النقاط التالية:

١- كانت الجاريتان تغنيان بغناء بعاث، وعند البخاري: (بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث) أي: من الفخر والهجاء، ويوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، والشاهد هنا أن ما كانت تتغنى به الجاريتان، لم يكن كلاما محرما، ولا حتى مكروها، بل كلام قيل في سياق المدح والذم؛ فلا يقاس ذلك بالكلام الذي يهيج الغرائز ويثير المشاعر ويحث على الرذيلة، فشتان بين الغناءين.

٢- لم يصاحب غناء الجاريتين آلات الموسيقى والعزف، بل كان كل الذي معهما، الدف؛ لقول عائشة رضي الله عنها في رواية مسلم: (تغنيان بدف) ، فيبقى تحريم المعازف هو الأصل، لما ورد عن أبي مالك الأشعريّ: أنه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف» «١» .

٣- الجاريتان لم تكونا محترفتين للغناء، قالت عائشة رضي الله عنها (وليستا بمغنيتين) . قال القرطبي: (أي ليستا ممن يعزف الغناء كما يعزفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عن المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرها من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه) «٢» .

وأقول: لولا أن عائشة رضي الله عنها ترى فرقا عندها وعند الناس، بين المغنية وبين الجارية التي كانت تغني عندها، من حيث الخلق والدين وطريقة الغناء، ما تحرزت بقولها:

(وليستا بمغنيتين) .

٤- المغنيتان كانتا من الجواري لا من الحرائر، وما يتجوّز في حق الجواري، قد لا يتجوز فيه في حق الحرائر.

٥- هذا الغناء الذي وقع من الجاريتين، على هذا النحو، في التحفظ في الأداء


(١) البخاري، كتاب: الأشربة، باب، ما جاء فيمن يستحل الخمر ... ، رقم (٥٥٩٠) .
(٢) انظر فتح الباري (٢/ ٤٤٢) نقله ابن حجر من تفسيره الجامع لأحكام القرآن (١٤/ ٥٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>