وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ [الأنبياء: ٨] ، والله عز وجل كان قادرا أن يرسل فيهم ملائكة، ولكن سيكون لهم شبهة أخرى، وهى كيف نتبع من ليس منا ولا على شاكلتنا، وهل يعقل أن يكون القدوة إلا من نفس جنس المأمور بالاقتداء، هم لم يرضوا أن يقتدوا بمن يتكلم بلسانهم، ويعلمون مدخله ومخرجه منذ ولادته، فهل كانوا سيرضون بمن ليس من جنسهم البشري. وكفى لهم حجة أن يقولوا: هو يستطيع ما لا نستطيع، ويقدر على ما لا نقدر عليه، والله قد امتن على الأمم أن الرسول كان منهم ويتكلم بلسانهم، قال تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: ٤] ، ولو قدر الله عز وجل إرسال ملائكة، لأرسلهم على هيئة رجال، حتى يتمكن البشر من الأخذ منهم، قال- تعالى-: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: ٩] .
[الفائدة الرابعة:]
في الآية تزكية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث اختتمت الآية بقوله- تعالى-:
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً فهو بصير بعباده، يعلم من يستحق منهم شرف النبوة، ومن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية، فببصيرته بالخلق، جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، قال- تعالى-: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] ، وختم على قلوب المعاندين من كفار قريش، فرفعت الآية قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم ودفعت شبهة المبطلين، وحكمت عليهم باستحقاق الضلال.
٣- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم يعلمه بشر:
وهذه الآية- أيضا- نزلت لدفع إحدى الشبهات التي أثارها كفار مكة حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعلم القرآن من غلام أعجمي- لا يتكلم العربية- فكذبهم القرآن الكريم، وأظهر براءة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعلى شأن ما أنزل إليه، بأن وصفه باللسان العربي المبين، أي أنه أفصح ما يكون من العربية
ذكر القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق في سبب نزول الآية وفيمن نزلت قال:«كان النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني- كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له: جبر النصراني كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلقنه القرآن» انتهى. «١» وكل التفسيرات لا تختلف إلا في اسم الغلام