للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأضاف الحافظ ابن حجر- رحمه الله- كلاما جميلا تعليقا أيضا على هذا الحديث فقال: (أعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه وإن كان غفر الله له لكنه مع ذلك أخشى الناس لله وأتقاهم، فما فعله صلى الله عليه وسلّم من عزيمة ورخصة فهو في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجد في العمل قياما بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط، وأشار بقوله- أعلمهم- إلى القوة العلمية وبقوله- أشدهم له خشية- إلى القوة العملية، أي أنا أعلمهم بالفضل وأولاهم بالعمل به) «١» .

وأعتقد أن من الحكم في أخذ النبي صلى الله عليه وسلّم بالرخص في بعض الأمور؛ هو التوسعة على الأمة، وإرادة رفع الحرج عنها، ولذلك كان الذم كل الذم لمن لم يرض بالتوسعة فرد الرخص. قال الإمام النووي- رحمه الله-: (وإنما يكون القرب إليه- سبحانه وتعالى-، والخشية له على حسب ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم لا بمخيلات النفوس وتكلف أعمال لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلّم) «٢» . لذلك قلت انفا: إن مدار الأمر كله في الاتباع وليس في التعمق في العبادة. والحرص على نشر السنة وتبليغها للناس أمر عظيم من أبواب محبة النبي صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه؛ لأن في ذلك سعيا لإعلاء سنته، ونشرا لهديه بين الناس، ومن مقتضيات ذلك الحرص على إماتة البدع والضلالات المخالفة لأمره وهديه، ولا شك في أن الابتداع في دينه من خوارم المحبة الصادقة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» .

ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية «٣» - قدس الله روحه حيث يقول: (ومن المعلوم أنه لا تجد أحدا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط الحديث من قلبه، وقيل عن بعض رؤوس الجهمية- إما بشر المريسي «٤» أو غيره: أنه قال: ليس شيء أنقص لقولنا من القران، فأقرّوا به في


(١) انظر «فتح الباري» (١٣/ ٢٧٩) .
(٢) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (١٥/ ١٠٧) :
(٣) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام ولد في حران، عام (٦٦١ هـ) ، ومات بدمشق عام (٧٢٨ هـ) .
(٤) هو بشر بن غياث ابن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي، العدوي بالولاء، أبو عبد الرحمن: فقيه معتزلي عرف بالفلسفة يرمى بالزندقة، وهو رأس الطائفة «المريسية» القائلة بالإرجاء وإليه نسبتها، كان قصيرا دميم المنظر، مات عام (٢١٨ هـ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>