يقين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لن يغدر، وليس من خلقه الغدر، ولكن لا أحد من أصحابه يمكن أن يأخذها عليه كذبة، لأن ما في الغيب لا يعلمه إلا الله، وإذا حكم الإنسان عما في الغيب بقوله: لا أدري، فليس بكذب صريح، قال الإمام ابن حجر:(ولما كان الأمر مغيبا- لأنه مستقبل- أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده بالتردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه) .
وما كان هذا التفصيل مني في هذا الأمر إلا لأبين شناعة الكذب، فكيف يتنزه الكفار قبل الإسلام عن الكذب، ويقع فيه المسلمون دون مواربة ولا مداراة من الصغير والكبير، من الرجل والمرأة، من طلبة العلم أحيانا والعوام في أغلب الأحيان، يكذب الرجل لا لشيء إلا أنه اعتاد الكذب، يتكلم الرجل ولا يبالي أكاذب هو أم صادق، يكذب الرجل أمام زوجته وأولاده، دون أدنى درجات الحياء منهم، يتكلم الرجل في المجلس ويكذب ويعلم أن كل من في المجلس يعلمون كذبه ولا يبالي، الأدهى من ذلك أنهم لا يعيرونه بكذبه، وقد يقبلون شهادته بعد ذلك، والأعظم والأدهى، أن الرجل يكذب، ولو استحلف على صدق كلامه ما استحيا من الله- عز وجل- بل أكد كلامه بأغلظ الأيمان، لا يبالي بغضب الله وسخطه.
ولا يتسع المجال أن أستفيض في شناعة هذه الخصلة الحقيرة، إلا أني سأذكر كلمات قليلة جدّا للترغيب في الصدق، وتشنيع أمر الكذب، فأقول: كيف يكذب المسلم ولا يصدق في كلامه؟ وقد رأى في الحديث أن الكافر لا يكذب، أيصدق الكافر ويكذب المسلم؟ أقول: كيف يكذب المسلم ولا يتحرى الصدق وقد ورد في الصحيح عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالصّدق فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . كيف يكذب المسلم وقد رأى ما أحدثه الكذب بمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في واقعة الإفك؟ ويكفي أن الكذب قد آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكيف لا يصدق المسلم وقد رأى فضل الصدق على الذين خلّفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فنجّاهم الصدق، بل رفعهم وهم الذين ارتكبوا معصية بتخلفهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: إن الصدق رفعهم حتى أنزل فيهم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، ما كان ذلك إلا لصدقهم، بل إن هرقل في هذا الحديث قد استدل على صدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم