وأقول: لماذا لم يستطع؟ هل- كما ذكرت- تعظيما لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فحسب، أم خوفا على يديه أن تمحى منها البركة كما محت لفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم خاف أن يلوم نفسه يوما من الأيام على إقدامه على هذه الفعلة أو حتى يلومه غيره، أم أنه خاف من كل تلك العواقب، كما أقول: لماذا لم يعاتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم على قسمه بالله ألا يفعل ما أمره به؟ هل لأن الأمر لم يكن للوجوب، وهذا أستبعده لعدم وجود دليل عليه، أم لعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تنفيذ مثل هذا الأمر كان فوق طاقة علي رضي الله عنه النفسية ومن القواعد المقررة في الشرع، أن الله. سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهل وازن علي رضي الله عنه، قبل أن يرد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين رد الأمر، والمحو، فوجد أن المحو أعظم من رد الأمر، كل ذلك علمه عند الله. سبحانه وتعالى. ولكن ما يهمنا في الأمر، هو استشعار تعظيم هؤلاء الأصحاب، للنبي صلّى الله عليه وسلّم. فوجه التعظيم الذي أردت أن أبينه في هذا الباب، لم أستدل عليه، من كونهم كانوا يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه صلّى الله عليه وسلّم وإنما استدللت عليه من كونهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يكون ظاهره أو صورته فقط توهم بسوء الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أن صورة الأمر ستكون مخالفة لما يشعرون به في نفوسهم تجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا أبلغ في تقريب الصورة للقارئ.
فتدبر أخي القارئ، كيف أبى أبو بكر الصديق أن يصلي إماما للرسول صلّى الله عليه وسلّم رغم أنه هو الذي أمره، وكيف شق على أبي أيوب أن يسكن في العلو والنبي صلّى الله عليه وسلّم يسكن في السّفل، ويقول مستعظما الأمر:(أنمشي فوق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . بالإضافة إلى الأنصاري الذي غضب غضبا شديدا من اليهودي لما قال:(والله الذي اصطفى موسى على البشر) . أضف إلى ذلك ما مر من أمر الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه ما كان يستطيع أن يملأ عينه من النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو سأل أن يصفه ما استطاع؛ إجلالا وإكبارا له صلّى الله عليه وسلّم.
ونأخذ أمثلة أخرى لهذا الإجلال والإكبار، وردت في قصة، صلح الحديبية، كما رواها البخاري:
١- لما قال عروة بن مسعود، وهو مفاوض آخر من عسكر كفار مكة، للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
(فإني والله لأرى وجوها أوشابا- أي أخلاطا- خليقا أن يفروا ويدعوك) ، غضب أبو بكر غضبا شديدا، ورد عليه قائلا:(امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه) ، والبظر قطعة بين جانبي فرج المرأة، وكان من عادة العرب أن يقولوا لمن يسبونه أو يشتمونه: امصص بظر أمه، فاستعار أبو بكر رضي الله عنه باللات لتعظيمهم إياها بقصد المبالغة في سبه.
٢- كان عروة بن مسعود كلما كلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ بلحيته، فماذا فعل الصحابي