للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب؛ لأنه جلَّ وعلا توعد المخالفين عن أمره بالفتنة، أو العذاب الأليم وحذرهم من مخالفة الأمر. وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب ما لم يصرف عنه صارف؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير.

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨)} فإن قوله: (اركعوا) أمر مطلق، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله: (لا يركعون) يدل على أن امتثاله واجب. وكقوله تعالى لإِبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فإنكاره تعالى على إبليس موبخًا له بقوله: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، يدل على أنه تارك واجبًا، وأن امتثال الأمر واجب، مع أن الأمر المذكور مطلق، وهو قوله تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} وكقوله تعالى عن موسى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)} فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)} وكقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦)} وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاص، ولا يكون عاصيًا إلَّا بترك واجب، أو ارتكاب محرم. وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فإنه يدل على أن أمر الله، وأمر رسوله مانع من الاختيار، موجب للامتثال، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب كما ترى. وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦)}.