وبينا أن من أصرح الآيات في ذلك قوله تعالى مخاطبًا له - صلى الله عليه وسلم -: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} الآية، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل نزول إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما بزمن طويل، فلا وجه البتة لاشتراط بلوغهما، أو بلوغ أحدهما الكبر عنده، بل المراد تشريع بر الوالدين لأمته بخطابه - صلى الله عليه وسلم -.
واعلم أن قول من يقول: إن الخطاب في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} لمن يصح خطابه من المكلفين، وأنه كقول طرفة بن العبد:
• ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا *
خلاف الصواب.
والدليل على ذلك قوله بعد ذكر المعطوفات على قوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} الآية. ومعلوم أن قوله:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ} خطاب له - صلى الله عليه وسلم - كما ترى، وذكرنا هناك بعض الشواهد العربية على خطاب الإِنسان، مع أن المراد بالخطاب في الحقيقة غيره.
وبهذا تعلم أن مثل قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (٦٠)} وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤)} وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} يراد به التشريع لأمته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ذلك الكفر الذي نهي عنه.