من دعاه بالنجاة من الهلاك، قال تعالى على لسان يونس عليه السلام: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الأنبياء: ٨٧] ، ومنهم من دعاه بمغفرة الذنوب، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص: ١٦] ، ولو كان عدم الدعاء أولى، لكان أولى الناس بذلك صفوة الخلق، وكيف يذكر الله عز وجل في كتابه الكريم كل هذه الأدعية للأنبياء في سياق المدح والثناء عليهم، ولا يبين لنا أن الأولى في حقهم عدم الدعاء، ولا يختلف اثنان أن الأولى في حق الأنبياء هو فعل الأولى من كل الطاعات.
٤- ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يدعو- وبغير طلب من أحد- خاصة في أوقات المحن والشدائد، كدعائه في غزوة بدر، وإلحاحه الشديد على الله بطلب النصرة، وكدعائه على قريش لما آذته، ووضعوا على ظهره الشريف سلى الجزور، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بخيري الدنيا والآخرة بطلبهم كدعوته لأنس بن مالك في الحديث الذي (رواه البخاري) عن أنس، وفيه:(فقالت أمّ سليم: يا رسول الله إنّ لي خويصة قال: «ما هي؟» ، قالت:
خادمك أنس فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلّا دعا لي به قال:«اللهمّ ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه» ) «١» ، وبغير طلبهم، كان النبي يدعو ربه ويجتهد في الدعاء، ويعلم أمته ذلك، مع كامل توكله على الله، ورضاه بقضائه وقدره، وهو أعلم الأمة، بل أعلم الأنبياء، بما ينبغي أن يسلكه مع الله عز وجل من الأدب.
٥- يتفرع على ما ذكر، أن نقطع بأفضلية الدعاء، وأنه عبادة مستقلة، وأن الذي يدعو مع الصبر على البلاء، والشكر على النعماء- خير من الذي لا يدعو مع صبره وشكره، فعلينا جميعا أن نتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء بكل ما نرجوه ونأمله من أمري الدين والدنيا، والأولى والآخرة، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يسمع صوت عبده.
فإن احتج أحد بحديث المرأة التي سألت الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لها بالشفاء من الصرع، فخيّرها بين الشفاء أو الصبر ودخول الجنة، فاختارت الصبر والجنة، هذا الحديث ليس بحجة في عدم الدعاء، وذلك لأن النبي عرض عليها الدعاء، وهذا حجة في مشروعيته، ولو كان عدم الدعاء لها أولى لبين ذلك لها، ولكنه عرض عليها الصبر مقابل أن تدخل الجنة، فوجدت المرأة أن الصبر والجنة أعظم مما تلاقيه من شدة الصرع، ومع هذا فقد طلبت
(١) رواه البخاري، كتاب: الصوم، باب: من زاد قوما فلم يفطر عندهم، برقم (١٩٨٢) .