هذه المكانة، فأراد الله- سبحانه وتعالى-، أن يبين فضله مقرونا باعتذار الأنبياء جميعا، وأقول جميعا، لأن الذي اعتذر، هم أولو العزم من الرسل، فمن باب أولى أن غيرهم كان سيعتذر إذا طلب منه الشفاعة، فكأن الجميع قد اعتذر.
كما أن الاعتذار للناس عن الشفاعة، من قبل الأنبياء نبيّا من بعد نبي، يجعل الناس في كل مرة أشد حزنا، وأعظم كربا، ويجعلهم يتعلقون أكثر وأكثر بالنبي الذي بعده، فلا يصلون إلى خاتم النبيين إلا بعد أن يصل الغم والكرب بهم أبلغ الحد، كالمريض الذي طاف على الأطباء بمرضه العضال، فلم يجد عندهم الدواء، ولم يبق أمامه إلا طبيب واحد، إما أن يجد عنده الدواء، أو يموت بمرضه، فإذا وجد عند الطبيب الأخير الدواء، كان أكثر له امتنانا، وأشد يقينا بفضله وسبقه، عمن سواه وهكذا ستكون حال النبي صلى الله عليه وسلم، مع الناس يوم القيامة، أرأيت أخي القارئ، الحكمة من سؤال الناس الأنبياء الشفاعة واحدا بعد الآخر، أعلمت أخي القارئ فضل هذا النبي صلى الله عليه وسلم الكريم يوم القيامة، ففي الوقت الذي لا يسمع فيه إلا الهمس كما قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه:
١٠٨] ، ترى النبي صلى الله عليه وسلم يشفع عند ربه أن يقضي بين الناس، فهل بعد هذا الفضل من فضل؟.
ج- تظهر أيضا منزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه- سبحانه وتعالى- إذا تدبرنا وتأملنا أحد أسباب اعتذار الأنبياء عن الشفاعة، في قول كل منهم:«إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» ، ومجال التأمل أنه في مثل هذا الغضب العظيم، من الرب- تبارك وتعالى-، ينطلق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي العرش ويخر ساجدا لله، حتى يأذن الله له بالشفاعة بقوله: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه ...
د- ومن عظيم منزلته صلى الله عليه وسلم أنه يؤذن له بالسجود تحت العرش، وهذا أبلغ القرب، بل هو القرب نفسه، ولم يأت دليل أن أحدا من المخلوقين سينزل هذه المنزلة، وهو السجود تحت العرش، من الأولين والآخرين.
ويتفرع على السجود بعض الأمور وهى:
أن السجود لله، هو أعظم مظاهر العبودية لله- عز وجل-، وهي الهيئة التي يكون فيها العبد أقرب ما يكون لله- سبحانه وتعالى- والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«فاتي تحت العرش فأقع ساجدا» ، ولو أن هناك هيئة أشرف من السجود، وأقرب إلى الله- سبحانه وتعالى-، لبينها الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا المقام الرفيع.