للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقول: ليس المراد من سرد الآيات إطلاع القارئ عليها؛ فهي معلومة لكل أحد، ولكن المراد بيان أن هذا التحدي هو في ذاته معجز، وأن الله عزّ وجلّ قد ألزمهم به الحجة، وأنه دليل لكل ذي لب على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد، وذلك أن العرب في زمن البعثة كانوا أبلغ الناس فصاحة وبلاغة، وكانوا يقيمون الأسواق والمنتديات؛ ليتباروا في كتابة المعلقات، وهذا لا ينكره أحد، فأن يأتي الرسول صلّى الله عليه وسلّم- على سبيل التنزل مع المجادلين- فيضع نفسه في مأزق أمام أصحابه وعشيرته، الذين آمنوا به وبايعوه على أنه نبي من عند الله، فيأتي ويتحدى المكاذبين له أمام الناس أجمعين، ويسجل ذلك في القرآن، ويقترح عليهم أن يتظاهروا ويتساعدوا فيما بينهم، ليأتوا بمثل هذا القرآن، فلا يشترط عليهم، تحرزا لنفسه، أن يأتوا به فرادى، بل يتحدى الإنس والجن معا، وما يدريه ما عند الجن من قوة، فضلا على ما عند العرب مما ذكرنا من فصاحة وبلاغة وبيان، ما الذي يدفعه لذلك، ويضحّي بما وصلت إليه منزلته عند أصحابه، فلمّا عجز العرب عن ذلك لم يسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تحقق له ما أراد من تعجيزهم، بل يتنزل معهم، فيتحداهم بالإتيان بعشر سور، فيعجزون، فلا يرضى المتحدي بهذا التعجيز الظاهر، ويصر على إكمال التحدي، في سورة واحدة، وفي كل مرة يرتفع شأنه أكثر عند أصحابه ويكون دافعا لهم على رسوخ الإيمان، بمن أنزل القرآن، وبمن أنزل عليه القرآن، وفي المقابل يحتقر شأنهم أكثر بعجزهم فيما برعوا فيه، ألم يفكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا سيكون الموقف إذا وفّقوا في هذا التحدي، أو رأى وسمع أصحابه من يأتي بمثل القرآن.

والسؤال الآن لماذا لم يستطيعوا أن يأتوا بالسورة، مع وجود الدافع، وانتفاء المانع، فقد حرصوا كل الحرص على تكذيبه وإبطال دعوته، فقالوا: شاعر،. وقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، وكادوا له بكل أنواع الكيد، قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) [آل عمران: ٥٤] ، وقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إبراهيم: ٤٦] ، علمنا أن مكرهم الذي تزول منه الجبال، وتضحيتهم بالمال والنفس والعرض والأولاد، كان أيسر عندهم من الإتيان بسورة واحدة من القرآن، وليعلم كل أحد أن إنكاره أن القرآن من عند الله- سبحانه وتعالى- سيوقعه في إشكال كبير، وهو كيف يأتي رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب بكلام يعجز العرب والعجم، والإنس والجن مجتمعين، فهل يعقل أن يكون هذا الذي أنزل القرآن بشرا، وهل أتى بشر من قبله، أو من بعده بكلام

<<  <  ج: ص:  >  >>