النبي صلّى الله عليه وسلّم من خير الآخرة، وإنما لتوليه بعضا من أمور المسلمين، يخشى أن يكون قد قصر في بعضها، وقد وضح ذلك في قوله:(ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها) ، فهو يبكي كل هذا البكاء، ليس لجزمه أنه وقع منه التقصير، بل لعدم يقينه أصاب فيها أو أخطأ، وهذا من ورعه وتقواه، أن اتهم نفسه.
وقد فرق رضي الله عنه بين عصر الوحي والتنزيل، والعصر الذي بعده، بأمر دقيق، في قوله:(ما أدري ما حالي فيها) ، حيث إنه كان يعرف حاله قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان يبشرهم برضى الله، - سبحانه وتعالى-، والفوز بالجنة، أما بعد موته صلّى الله عليه وسلّم فهم يعملون ويحسنون، لكن من يبشرهم بقبول أعمالهم وأنها موافقة للصواب، لذلك بكى طويلا، لعدم وجود المصوّب لعمله والمبشّر له بالفوز والفلاح.
يتفرع على ذلك، ضرورة أن يبكي المسلم على نفسه طويلا، لأنه لم يشهد الصحبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبشره أحد بالجنة، وليس له من الأعمال الصالحة، مثل ما كان لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلام كل ذلك الاطمئنان الذي نشعر به؟!!، أعمال قليلة وذنوب كثيرة وغفلة عظيمة.
٢- فقهه رضي الله عنه ويتضح من الأمور التالية:
أ- رؤيته أن الشهادتين، هي أفضل ما يدخره العبد للقاء الله، - سبحانه وتعالى-، وهذا هو الصواب، لما رواه أنس بن مالك: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعاذ رديفه على الرّحل. قال:
«يا معاذ بن جبل» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال:«يا معاذ» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا. قال:«ما من أحد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله صدقا من قلبه إلّا حرّمه الله على النّار»«١» .
ب- إقراره أن الله، - سبحانه وتعالى-، هو الهادي إلى سواء السبيل، وأن الهداية للإسلام هي محض فضل منه عزّ وجلّ لقوله رضي الله عنه:(فلما جعل الله الإسلام في قلبي) ، وعلمه أن القلب هو محل الإيمان أو الكفر.
ج- أنه اشترط عند إسلامه، أن يغفر له كل ما أسلف من الذنوب، فلم يكن أمر الشهادتين عنده، كلمة يقولها، بل فكّر وتدبر في عواقب ما فعل قبلها، فعظم تلك الذنوب التي اقترفها، وكأنه شعر أنها ستكون عائقا له في طريقه إلى الله، - سبحانه وتعالى-، فاشترط أن تغفر تلك الذنوب أولا، قال:(أردت أن أشترط) قال: «تشترط
(١) البخاري، كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم، برقم (١٢٨) .