للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أي عن الحي الذي غاب واضمحل، ومن هنا سمي الدفن إضلالًا؛ لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض، فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام. ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان:

فآب مضلوه (١) بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل

فقوله "مضلوه" يعني دافنيه في قبره. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ .. } الآية. فمعنى: {ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها فغابت واستهلكت فيها.

الثالث: الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) } أي ذاهبًا عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي. وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) } أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك، وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} أي تذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه، بدليل قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، وقوله تعالى: {قَال عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢) } ومن هذا المعنى قول الشاعر:


(١) كذا بالضاد المعجمة، لكن في "الديوان": ١٢١: "مُصلُّوه" بالصاد المهملة.