أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر، فإنا نبينها، وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا. فإذا علمت ذلك؛ فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى، وقد ذكر شيئًا من صفاته أيضًا في غير هذا الموضع. وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا، والمذكور في غير هذا الموضع.
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ووصفه بقوله: {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ -إلى قوله- وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)}، فقوله:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} مقول قول محذوف؛ أي وقلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة. والكتاب: التوراة؛ أي خذ التوراة بقوة؛ أي: بجدٍّ واجتهاد، وذلك بتفهُّم المعنى أولًا حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به. وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا: التوراة. وحكى غير واحد عليه الإجماع. وقيل: هو كتاب أنزل على يحيى، وقيل: هو اسم جنس يشمل الكتب المتقدمة. وقيل: هو صحف إبراهيم. والأظهر قول الجمهور: إنه التوراة كما قدمنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ} أي أعطيناه الحكم، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة، مرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب؛ أي إدراك