وأن الثاني يدل عليه قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)} لأنه يدل على نفي الكلام للإنسي مطلقًا. قال أبو حيان في البحر: وقوله {إِنْسِيًّا (٢٦)} لأنها كانت تكلم الملائكة. ومعنى كلامه أن قوله: {إِنْسِيًّا (٢٦)} له مفهوم مخالفة، أي بخلاف غير الإنسي كالملائكة فإني أكلمه. والذي يظهر لي أنه لم يرد في الكلام إخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وإنما المراد شمول نفي الكلام كل إنسان كائنًا من كان.
مسألة
اعلم أنه على هذا القول الذي اختاره ابن كثير أن المراد بقوله:{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي قولي ذلك بالإشارة يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام؛ لأنها في هذه الآية سميت قولًا على هذا الوجه من التفسير. وسمع في كلام العرب كثيرًا إطلاق الكلام على الإشارة، كقوله:
إذا كلَّمَتني بالعيون الفواتر ... رددتُ عليها بالدموع البوادر
وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى ما يدل من النصوص على أن الإشارة المُفْهِمة تنزَّل منزلة الكلام، وما يدل من النصوص على أنها ليست كالكلام، وأقوال العلماء في ذلك.
اعلم أنه دلت أدلة على قيام الإشارة المفهمة مقام الكلام، وجاءت أدلة أخرى يفهم منها خلاف ذلك. فمن الأدلة الدالة على قيام الإشارة مقام الكلام: قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله"؟ فأشارت إلى السماء. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اعتقها فإنها