للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)} فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي، مع أنه تعالى قال: {فَأَشَارَتْ إِلَيهِ} أي أشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمر فهذه إشارة مفهمة، وقد فهمها قومها فأجابوها جوابًا مطابقًا لفهمهم ما أشارت به: {قَالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)}، وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تكلم إنسيًّا. فالآية صريحة في أن الكلام باللفظ يخل بنذرها، وأن الإشارة ليست كذلك، فقد جاء الفرق صريحًا في القرآن بين اللفظ والإشارة، وكذلك قوله تعالى: {قَال آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} فإن الله جعل له آية على ما بشر به وهي منعه من الكلام، مع أنه لم يمنع من الإشارة بدليل قوله: {إلا رَمْزًا}، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَنْ سَبِّحُوا ... } الآية. فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام. والآية الأولى أصرح في الدلالة على أن الإشارة ليست كاللفظ، لأن الآية الثانية محتملة لكون الإشارة كالكلام، لأن استثناءه تعالى قوله: {إلا رَمْزًا} من قوله: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثنى منه، لأن الأصل في الاستثناء الاتصال. والله تعالى أعلم.

فإذا علمت أدلة الفريقين في الإشارة، هل هي كاللفظ أو لا؛ فاعلم أن العلماء مختلفون في الإشارة المفهمة، هل تنزل منزلة اللفظ أو لا؟ وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى جملًا من أقوال أهل العلم في ذلك، وما يظهر رجحانه بالدليل.

قال ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري في آخر "باب