الأول: أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثباتًا؛ فيصير قوله:{أَلَمْ يَعِدْكُمْ} بمعنى وعدكم، وقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ} بمعنى شرحنا، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَينَينِ (٨)} بمعنى جعلنا له عينين. وهكذا. ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر؛ لأن "لم" حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف. ووجه انقلاب النفي إثباتًا أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في "لم" فينفيه، ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات.
الوجه الثاني: أن الاستفهام في ذلك التقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول:"بلى" وعليه فالمراد من قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا: بلى هكذا. ونظير هذا من كلام العرب قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
فإذا عرفت أن قوله هنا:{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا -إلى قوله- بِمَلْكِنَا} قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَال عَلَيكُمُ الْعَهْدُ} الآية؛ فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكنه بينه في غير هذا الموضع؛ كقوله في "الأعراف" في القصة بعينها: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَال بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}، وبين بعض ما فعل بقوله في "الأعراف": {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيهِ}، وقد أشار إلى ذلك هنا في "طه" في قوله: