لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري -وهو هو- ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك هذا الحديث عمدا؛ لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد. ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك، فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع، ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس، والمرفوع لا يعارض بالموقوف.
فالجواب: أن الصحابي إذا خالف ما روي ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن أحمد -رحمه الله-.
الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به، وهو عدل، عارف، وعلى هذه الرواية فلا إشكال، وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته، لا بقوله. فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى، أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا، فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا لأن تكون الطلقات مفرقة، كما جزم به النسائي وصححه النووي، والقرطبي، وابن سريج. فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة يدل على أن معنى الحديث الذي روي ليس كونها بلفظ واحد، كما سترى بيانه في كلام القرطبي في المفهم في الجواب الذي بعد هذا.
واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى في الثلاث بفم