للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكريمة: ولم يكن قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جزعًا؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} بل كان ذلك دعاء منه. والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسًا غاصًا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان؛ فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} فقلت: ليس هذا شكاية، وإنما كان دعاء؛ بيانه {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال: عَرَّفه فاقة السؤال ليمنَّ عليه بكرم النوال. انتهى منه.

ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة "الأنبياء" من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)} وذكره في سورة "ص" وأسند ذلك إلى الشيطان في قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١)} والنصب على جميع القراءات معناه: التعب والمشقة، والعذاب: الألم. وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في آية "ص" هذه إشكال قوي معروف؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه: أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام؛ كقوله: {إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية، وقوله تعالى عنه مقررًا له: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوينَ (٤٢)}.