والحاصل: أن الأئمة الأربعة متفقون على أن السفر بعد العمرة، والإِحرام بالحج من منتهى ذلك السفر مسقط لدم التمتع إلا أنهم مختلفون في قدر المسافة، فمنهم من يقول: لا بد أن يرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى المحل الذي جاء منه، ثم ينشئ سفرًا للحج، ويحرم من الميقات. وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع إلى بلده أو يسافر مسافة مساوية لمسافة بلده، وبعضهم يكفي عنده سفر مسافة القصر، وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع لإِحرام الحج إلى ميقاته وقد قدمنا أقوالهم مفصلة.
ودليلهم في ذلك ما فهموه من قوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قالوا: لا فرق بين حاضري المسجد الحرام، وبين غيرهم إلا أن غيرهم ترفهوا بإسقاط أحد السفرين الذي هو السفر للحج بعد السفر للعمرة، وإن سافر للحج بعد العمرة زال السبب، فسقط الدم بزواله. وعضدوا ذلك بآثار رووها عن عمر وابنه رضي الله عنهما. وقد قدمنا قولي العلماء في الشيء الذي ترجع إليه الإِشارة في قوله:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وناقشنا أدلتهما، وبينا أنه على القول الذي يراه البخاري رحمه الله، ومن وافقه أن الإِشارة راجعة إلى نفس التمتع وأن أهل مكة لا متعة لهم أصلًا، فلا دليل في الآية على أقوال الأئمة التي ذكرنا، وعلى القول الآخر أن الإِشارة راجعة إلى حكم التمتع وهو لزوم ما استيسر من الهدى، والصوم عند العجز عنه، لا نفس التمتع فاستدلال الأئمة بها على الأقوال المذكورة له وجه من النظر كما ترى.
والحاصل: أن استدلالهم بها إنما يصح على أحد التفسيرين في مرجع الإشارة في الآية. وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى.