وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنًا للإِضراب عما قبله إضرابًا انتقاليًا، مع معنى استفهام الإِنكار، فتضمن الآية الإِنكار على الكفار في دعواهم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - به جنة، أي: جنون، يعنون: أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون، قبحهم الله، ما أجحدهم للحق؛ وما أكفرهم؛ ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله:{بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ} فالإِضراب ببل إبطالي. والمعنى: ليس بمجنون، بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل أنه حق، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق.
وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر، كقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)} وقوله تعالى: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩)} وهذا الجنون الذي افتري على آخر الأنبياء افتري أيضًا على أولهم، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)} وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولًا إلَّا قال قومه: إنه ساحر، أو مجنون، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك؛ لتواطئ أقوالهم لرسلهم عليه، وذلك في قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥٣)} فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به؛ لاختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم، ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان. وقد أوضح هذا المعنى في سورة البقرة في قوله:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه