فإذا علمت هذا فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي، كإيمان أبي لهب، وإن كان وقوعه مستحيلًا؛ لعلم الله بأنه لا يقع.
أما المستحيل عقلًا لذاته كالجمع بين النقيضين، والمستحيل عادة كمشي المقعد، وطيران الإِنسان بغير آلة، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما، كما قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال - صلى الله عليه وسلم - :"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم".
وإما المستحيل العقلي: فقالت جماعة من أهل الأصول: يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلًا، وبالمستحيل عادة. وقال بعضهم: لا يجوز عقلًا مع إجماعهم على أنه لا يصح وقوعه بالفعل.
وحجة من يمنعه عقلًا أنه عبث لا فائدة فيه؛ لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال، فتكليفه بما هو عاجز عنه عجزًا محققًا عبث لا فائدة فيه، قالوا: فهو مستحيل؛ لأن الله حكيم خبير.
وحجة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف، هل يتأسف على عدم القدرة، ويظهر أنه لو كان قادرًا لامتثل، والامتحان سبب من أسباب التكليف، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده، وهو عالم أنه لا يذبحه، وبين أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم، أي: اختباره، هل يمتثل؟، فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم، كما قال تعالى عنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)}.