ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن أحدًا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر.
وسَبْقُ علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.
وإيضاح ذلك، أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك؟ وتُصيِّر علم الله جهلًا، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟
والجواب بلا شك: هو أن ذلك لا يمكن بحال، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، وقال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)}.
ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه فيأتيه العبد طائعًا مختارًا غير مقهور ولا مجبور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإِسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا.