وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله:{قَبْلَ مَوْتِهِ} راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} كما ذكرنا.
فإن قيل: إن كثيرًا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:{إِذْ قَال اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، وقوله:{فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِمْ}.
فالجواب: أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلًا.
أما قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه:
الأول: أن قوله: {مُتَوَفِّيكَ} حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملًا غير ناقص، والعرب تقول: توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له، إذا قبضه وحازه إليه كاملًا من غير نقص.
فمعنى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في الوضع اللغوي: أي حائزك إليَّ كاملًا بروحك وجسمك، ولكن الحقيقة العرفية خصصت المتوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم.
ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب:
الأول: هو تقديم الحقيقة العرفية، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها.