الثالث: أن تكون قلت ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
قد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله: {أَطَّلَعَ الْغَيبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨)} مبطلًا لهما بأداة الإنكار. ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل؛ لأن العاص المذكور لم يَطَّلع الغيب؛ ولم يتخذ عند الرحمن عهدًا. فتعين القسم الثالث، وهو أنَّه قال ذلك افتراء على الله. وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله:{كَلَّا} أي: لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك، لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدًا، بل قال ذلك افتراء على الله؛ لأنه لو كان أحدهما حاصلًا لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى. وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود: أنهم لن تمسهم النار إلَّا أيامًا معدودة في سورة "البقرة"، وصرح في ذلك بالقسم الذي هو الحق، وهو أنهم قالوا ذلك كذبًا من غير علم. وحذف في "البقرة" قسم اطلاع الغيب المذكور في "مريم" لدلالة ذكره في "مريم" على قصده في "البقرة" كما أن كذبهم الذي صرح به في "البقرة" لم يصرح به في "مريم"؛ لأن ما في "البقرة" يبين ما في "مريم" لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضًا؛ وذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠)} فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في "مريم" كما أوضحنا، وما حذف منها يدل عليه ذكره في "مريم" فاتخاذ العهد ذكره في "البقرة ومريم" معًا، والكذب في ذلك على الله صرح به