وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث، وعلى كل حال فالحديث المذكور احتج به جمهور العلماء، منهم الأئمة الثلاثة المذكورون على أن ما أفسدته البهائم بالليل على أربابها، وفي النهار على أهل الحوائط حفظها. ومشهور مذهب مالك وأحمد والشافعي أنه يضمن بقيمته كما تقدم. وأبو حنيفة يقول: لا ضمان مطلقًا في جناية البهائم، ويستدل بالحديث الصحيح:"العجماء جبار" أي جرحها هدر. والجمهور يقولون: إن الحديث المذكور عام وضمان ما أفسدته ليلًا مخصص له. وذهب داود ومن وافقه إلى أن ما أتلفته البهائم بغير علم مالكها ولو ليلًا لا ضمان فيه، وأما إذا رعاها صاحبها باختياره في حرث غيره فهو ضامن بالمثل.
واعلم أن القائلين بلزوم قيمة ما أفسدته البهائم ليلًا يقولون: يضمنه أصحابها ولو زاد على قيمتها. خلافًا للَّيث القائل: لا يضمنون ما زاد على قيمتها. وفي المسألة تفاصيل مذكورة في كتب الفروع. وصيغة الجمع في الضمير في قوله:{لِحُكْمِهِمْ} الظاهر أنها مراد بها سليمان وداود وأصحاب الحرث وأصحاب الغنم، وأضاف الحكم إليهم لأن منهم حاكمًا ومحكومًا له ومحكومًا عليه.
وقوله:{فَفَهَّمْنَاهَا} أي القضية أو الحكومة المفهومة من قوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}، وقوله:{وَكُلًّا آتَينَا} أي أعطينا كلًّا من داود وسليمان حكمًا وعلمًا، والتنوين في قوله:{وَكُلًّا} عوض عن كلمة أي: كل واحد منهما.