حتى يرد دليل ناقل عنه، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتًا بدليل شرعي.
وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الآية.
وفي سورة الحج في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل عَلَى آيات الحج، وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك.
وأما الأمر الثاني: وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد، فقد قدمنا في سورة الأنعام في الكلام على آية الأنعام المذكورة آنفًا أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطًا لا شك فيه، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا ثبت تأخرها عنه، ولا منافاة بينهما أصلًا حتى يرجح المتواتر على الآحاد، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين؛ لأن كل منهما حق في وقته؛ فلو قالت لك جماعة من العدول: إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة؛ لأَن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك، فأخبرك ذلك الإِنسان بقدومه، وهو صادق، وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين، لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور؛ فالمتواتر في وقته قطعي، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي؛ فنسخة بالآحاد إنما نفي استمرار حكمه؛ وقد عرفت أنه ليس بقطعي كما ترى.