السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا. وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه العلامة أبو العباس بن تيمية رحمه الله، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث.
وهذا التفسير الأخير دلت عليه أيضًا آيات من كتاب الله جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندًا إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم صممهم عن سماع ما ينفعهم، دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)} فقد قال فيهم صم بكم مع شدة فصاحتهم، وحلاوة ألسنتهم كما صرح به في قوله تعالى فيهم. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي: لفصاحتهم، وقوله تعالى:{فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد هم الذين قال الله فيهم:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وما ذلك إلَّا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما ينتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صموا عنه، فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه، وينطقون به، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية، وهذا واضح كما ترى.
وقد أوضحنا هذا غاية الإِيضاح مع شواهده العربية في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، في سورة البقرة في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} مع قوله فيهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وقوله فيهم: