مِنْ الْجُوعِ مَا يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ (الْهِنْدِيَّةُ فِي الْبَابِ الثَّانِي بِتَغْيِيرٍ) .
وَقَوْلُهُ النَّفْسُ أَعَمُّ مِنْ النَّفْسِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ فَالنَّفْسُ الْحَقِيقِيَّةُ مَعْلُومَةٌ أَمَّا النَّفْسُ الْحُكْمِيَّةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إتْلَافِ كُلِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ فَالتَّهْدِيدُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْإِنْسَانِ كُلِّهِ يُعَدُّ إكْرَاهًا مُلْجِئًا أَيْضًا حَتَّى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَا يَشْتَرِطُ التَّهْدِيدَ بِإِتْلَافِ جَمِيعِ الْمَالِ بَلْ يَعُدُّ أَخْذَ بَعْضِ الْمَالِ إكْرَاهًا مُعْتَبَرًا.
مَثَلًا: لَوْ قَالَ أَحَدُ الظَّلَمَةِ لِأَحَدٍ إذَا لَمْ تَبِعْنِي دَارَك فَسَأُعْطِيهَا إلَى عَدُوِّك وَبِنَاءً عَلَى هَذَا بَاعَهُمَا مِنْهُ فَيُعَدُّ ذَلِكَ الْبَيْعُ بَيْعًا بِإِكْرَاهٍ أَمَّا عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَالْإِكْرَاهُ بِأَخْذِ الْمَالِ إذَا وَقَعَ بِأَخْذِ كُلِّ الْمَالِ فَالْإِكْرَاهُ مُعْتَبَرٌ وَالْإِكْرَاهُ الْوَاقِعُ بِأَخْذِ بَعْضِ الْمَالِ إذَا كَانَ مَا تُرِكَ لَهُ مِنْ الْمَالِ كَافِيًا يُعَدُّ ذَلِكَ إكْرَاهًا (الدُّرُّ الْمُخْتَارُ، رَدُّ الْمُحْتَارِ) .
وَالضَّرْبُ الَّذِي يُعَدُّ إكْرَاهًا مُلْجِئًا هُوَ الضَّرْبُ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى تَلَفِ النَّفْسِ أَوْ تَلَفِ عُضْوٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ مِقْدَارِ هَذَا الضَّرْبِ أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّهْدِيدُ بِمَا لَا يَقِلُّ عَنْ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً وَالْبَعْضُ يَقُولُ إنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَمَّلُ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ بِأَدْنَى مِنْهُ فَلَا طَرِيقَ سِوَى الرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ يَحْصُلُ بِهِ وُسْعُهُ وَإِلَّا فَلَا (الطُّورِيُّ) وَجَاءَ فِي الدُّرُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالضَّرْبِ جَلْدَةً أَوْ جَلْدَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ إكْرَاهًا مُلْجِئًا إلَّا أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالضَّرْبِ، عَلَى مَذَاكِيرِ الْإِنْسَانِ أَوْ عَلَى عَيْنِهِ يُعَدُّ إكْرَاهًا مُلْجِئًا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ مِثْلِهَا عَلَى الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ يَكُونُ مُؤَدِّيًا إلَى التَّلَفِ (الطُّورِيُّ) .
وَالتَّهْدِيدُ بِالْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ لَا يُعَدُّ إكْرَاهًا مُلْجِئًا لِكَوْنِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَلَفِ الْمُهَدَّدِ مَا لَمْ يَمْنَعْ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَنْهُ (الْبَزَّازِيَّةُ، الطَّحْطَاوِيُّ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُهَدَّدُ (بِفَتْحِ الدَّالِ) بِالْحَبْسِ وَالتَّصْفِيدِ مِنْ أَرْبَابِ التَّنْعِيمِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْجَاهِ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِيمَا إذَا سُجِنَ فِي مَكَان مُظْلِمٍ أَوْ أَنَّهُ سَيَفْقِدُ أَحَدَ أَعْضَائِهِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ إكْرَاهًا مُلْجِئًا.
كَذَلِكَ إذَا هُدِّدَ أَحَدٌ بِالْحَبْسِ فِي مَكَان مُظْلِمٍ وَخِيفَ مِنْ فَقْدِ الْبَصَرِ مِنْ جَرَّاءِ طُولِ السِّجْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ الْإِكْرَاهُ مُلْجِئًا (الطَّحْطَاوِيُّ) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْغَمَّ وَالْأَلَمَ فَقَطْ كَالضَّرْبِ الْيَسِيرِ وَالْحَبْسِ وَالتَّصْفِيدِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ وَالْمَدِيدِ وَيُقَالُ لَهُ الْإِكْرَاهُ النَّاقِصُ وَهَذَا الْإِكْرَاهُ وَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا لِلرِّضَا لَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ (الدُّرَرُ) .
الْغَمُّ، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ هُوَ السِّتْرُ وَالْغِطَاءُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحُزْنِ غَمٌّ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّي السُّرُورَ وَالْحِلْمَ أَلَمٌ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ بِمَعْنَى الْوَجَعِ وَيُجْمَعُ عَلَى آلَامٍ وَعَلَيْهِ فَالْأَلَمُ هُوَ شَيْءٌ كَرِيهٌ قَبِيحٌ سَوَاءٌ أَحَصَلَ بِعَارِضِ وَجَعٍ أَوْ فُتُورٍ أَوْ هَمٍّ فَهُوَ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ لِلْغَمِّ.
وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِكْرَاهِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَعَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ فِي دَائِرَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ (أَبُو السُّعُودِ) .
الْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهُ مَا يَجِيءُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ بِهِ وَبِالضَّرْبِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهُ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ إذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَيْهِ