للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اخْتِلَافِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ - فِي أَمْرِ الْإِنْشَاءِ وَالْبِنَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادَةَ قَدِيمًا فِي إنْشَاءِ الدُّورِ وَبِنَائِهَا أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ بُيُوتِهَا مُتَسَاوِيَةً وَعَلَى طِرَازٍ وَاحِدٍ، فَكَانَتْ عَلَى هَذَا رُؤْيَةُ بَعْضِ الْبُيُوتِ تُغْنِي عَنْ رُؤْيَةِ سَائِرِهَا، وَأَمَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ فَإِذْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ تَكُونُ بُيُوتُهَا مُخْتَلِفَةً فِي الشَّكْلِ وَالْحَجْمِ لَزِمَ عِنْدَ الْبَيْعِ رُؤْيَةُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ.

وَفِي الْحَقِيقَةِ اللَّازِمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا حُصُولُ عِلْمٍ كَافٍ بِالْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ تَغْيِيرًا لِلْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ الْحُكْمُ فِيهَا بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الزَّمَانِ فَقَطْ، وَكَذَا تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَلُزُومُ الضَّمَانِ غَاصِبَ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَالِ الْوَقْفِ مَبْنِيَّانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَقَدْ رَأَى الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ عَدَمَ لُزُومِ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ فِي دَعْوَى الْمَالِ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِيهِمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ صَلَاحُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ، أَمَّا الصَّاحِبَانِ وَقَدْ شَهِدَا زَمَنًا غَيْرَ زَمَنِهِ تَفَشَّتْ فِيهِ الْأَخْلَاقُ الْفَاسِدَةُ فَرَأَيَا لُزُومَ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ سِرًّا وَعَلَنًا وَالْمَجَلَّةُ قَدْ أَخَذَتْ بِقَوْلِهِمَا وَأَوْجَبَتْ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ: وَكَذَا مِنْ الْقَوَاعِدِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ أَجْرٌ وَضَمَانٌ إلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَمَّا وَجَدُوا أَنَّ النَّاسَ فِي عَصْرِهِمْ لَا يُبَالُونَ بِاغْتِصَابِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْأَوْقَافِ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا كُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُمْ فُرْصَةٌ أَوْجَبُوا ضَمَانَ مَنَافِعِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ الْعَائِدِ لِلْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ قَطْعًا لِلْأَطْمَاعِ، وَنَخْتِمُ قَوْلَنَا مُكَرِّرِينَ - أَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِنَاءً عَلَى النَّصِّ لَا تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ، إذْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا عَلَى بَاطِلٍ بِخِلَافِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَقَدْ تَكُونُ مَبْنِيَّةً عَلَى بَاطِلٍ، كَأَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ مَثَلًا بِالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَمْنُوعَاتِ فَذَلِكَ لَا يَجْعَلُهَا جَائِزَةً شَرْعًا.

[ (الْمَادَّةُ ٤٠) الْحَقِيقَةُ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ]

(الْمَادَّةُ ٤٠) :

الْحَقِيقَةُ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ.

يَعْنِي: لَوْ وَكَّلْتَ إنْسَانًا بِشِرَاءِ طَعَامِ وَلِيمَةٍ لَا يَشْتَرِي إلَّا الطَّعَامَ الْمُعْتَادَ فِي مِثْلِهَا لَا كُلَّ مَا يُؤْكَلُ، كُنَّا أَوْضَحْنَا سَابِقًا أَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ، وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ لِلَّفْظِ مَعْنًى ثَالِثًا، وَهُوَ الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ. وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَنَّ الْمَعْنَى الْكِنَائِيَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا أَوْ يَكُونَ مَجَازِيًّا، فَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلَّفْظِ هُوَ كَإِلْبَاسِ الشَّخْصِ لِبَاسَهُ الْمَمْلُوكَ لَهُ، وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ كَاللِّبَاسِ الْمُسْتَعَارِ فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ وَدَلِيلٍ، أَمَّا لِأَجْلِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، يَجِبُ وُجُودُ قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلَّفْظِ.

هَذَا وَأَنَّ الْقَرِينَةَ أَوْ الدَّلِيلَ الَّذِي يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ مُتَنَوِّعَةٌ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلَّفْظِ مَهْجُورًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَهُوَ الَّذِي نَشْرَحُهُ الْآنَ.

إذَا أَصْبَحَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلَّفْظِ مَهْجُورًا عَادَةً وَعُرْفًا وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنًى آخَرَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ وَيَكُونُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ الْقَرِينَةَ - الْمَانِعَةَ مِنْ إرَادَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ لِذَلِكَ النَّوْعِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: - عَدَمُ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمَالِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَوْ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ مَهْجُورٌ عَادَةً أَوْ شَرْعًا. فَاسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ فِي هَذَا الْوَجْهِ يُبْنَى عَلَى أَحَدِ أَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ:

الْأَوَّلُ تَعَذُّرُ قَصْدِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَمَعْنَى التَّعَذُّرِ عَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُصُولِ لِلشَّيْءِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>