وَالْأَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةُ مُتَّفِقُونَ فِي عَدَمِ لُزُومِ الْمَنْفَعَةِ فِي هَذَا، أَمَّا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَرَى أَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ كَأَعْيَانِهِ (رَدُّ الْمُحْتَارِ فِي الْغَصْبِ) . يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَالُ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ أَوْ مَالَ وَقْفٍ أَوْ مَالَ يَتِيمٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَيَثْبُتُ عَدَمُ لُزُومِ ضَمَانِ الْمَنَافِعِ بِدَلِيلَيْنِ:
أَوَّلًا: بِمَا أَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُ بِسَبَبِ الْغَصْبِ وَحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ الْأُجْرَةَ وَالضَّمَانَ بِمُقْتَضَى الْمَادَّةِ " ٨٦ "، فَلَا تُعْطَى الْأُجْرَةُ.
ثَانِيًا: لَيْسَ مِنْ مُمَاثَلَةٍ بَيْنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَالِ أَيْ النُّقُودَ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَمَّا كَانَتْ أَعْرَاضًا لَيْسَ لَهَا بَقَاءٌ، فَلَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا بِضَرُورَةِ وُرُودِ الْعَقْدِ. فَيُشْتَرَطُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ الْمُمَاثَلَةُ.
وَقَدْ وَرَدَتْ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ ضَمَانُ الْمَنَافِعِ بِالْمَنَافِعِ (شَرْحُ الْمَجَامِعِ وَنَتَائِجُ الْأَفْكَارِ فِي الْغَصْبِ) . وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْأَدِلَّةِ كَانَ مِنْ اللَّازِمِ عَدَمُ لُزُومِ ضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ لِمَالِ الْوَقْفِ أَوْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَكِنْ جَوَّزَ الْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ تَضْمِينَ مَنَافِعِهَا اسْتِحْسَانًا لِمَا رَأَوْهُ مِنْ طَمَعِ النَّاسِ فِي أَمْوَالِ الْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (٣٦) مَتْنًا وَشَرْحًا.
وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فُقَهَاءَنَا الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ أَخَذُوا فِي جَوَازِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ دُونَ أَقْوَالِ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ وَلِلْمَنَافِعِ قِيمَةٌ كُبْرَى فِي هَذَا الزَّمَانِ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ قَصْرًا لِلِاصْطِيَافِ وَكَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ السَّنَوِيِّ لِهَذَا الْقَصْرِ سَبْعِينَ جُنَيْهًا فَانْتَهَزَ شَخْصٌ آخَرَ غِيَابَ صَاحِبِ الْقَصْرِ وَسَكَنَهُ مُدَّةَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ غَصْبًا، فَعَلَى رَأْيِ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَلْزَمُهُ أَجْرٌ. أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيَلْزَمُهُ، وَبِمَا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا بِضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ فِي مَالِ الْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ فَيَجِبُ عَلَى فُقَهَاءِ عَصْرِنَا هَذَا أَنْ يَتَشَاوَرُوا وَيَتَّخِذُوا قَرَارًا بِخُصُوصِ قَبُولِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي عُمُومِ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ وَأَنْ يُسْتَحْصَلَ عَلَى إرَادَةٍ سُنِّيَّةٍ بِالْعَمَلِ بِهِ. وَلَزِمَ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا هُوَ مُعَدٌّ لِلِاسْتِغْلَالِ إنَّمَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ يَقُومُ مَقَامَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ.
جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ " لَوْ اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ إلَخْ " فَعَلَيْهِ إذَا اسْتَعْمَلَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ بِالذَّاتِ أَوْ أَجَّرَهُ مِنْ آخَرَ وَأَخَذَ أُجْرَتَهُ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ مِنْ مُقَابِلٍ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَرُّضٌ لِمَا أَخَذَ الْغَاصِبُ مِنْ الْأُجْرَةِ اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (٤٤٧) مَتْنًا وَشَرْحًا. وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْمَالُ وَقْفًا فَيَجْرِي فِيهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (٥٩٨) ، وَلَكِنَّ الْمَالَ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ هَكَذَا غَصْبًا أَوْ عُطِّلَ إذَا كَانَ وَقْفًا أَوْ مَالًا لِصَغِيرٍ فَعَلَى كُلِّ حَالٍ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِتَأْوِيلِ مِلْكٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ فَيَلْزَمُ أَيْضًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute