وَأَمَّا إبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِرَافِ أَحَدٍ بِقَبْضِ وَاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِقْرَارِ وَسَيُوَضَّحُ فِي الْمَادَّةِ (الـ ١٥٧٢) لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْإِقْرَارِ يَشْمَلُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْإِقْرَارِ وَتُسْتَعْمَلُ أَلْفَاظُ: " أَبْرَأْتُك بَرَاءَةَ الِاسْتِيفَاءِ "، أَوْ " بِبَرَاءَةِ الْقَبْضِ "، أَوْ " أَبْرَأْتُك مِنْ الِاسْتِيفَاءِ " فِي بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ أَمَّا إذَا أَطْلَقَ الْمُبْرِئُ الْإِبْرَاءَ كَأَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُك بِدُونِ أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ بِبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ، أَوْ بِبَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى بَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ، وَالْآخَرُ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ أَمَّا مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ يُحْمَلُ عَلَى بَرَاءَةِ الْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ. لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمَذْكُورَ إبْرَاءٌ أَقَلُّ مِنْ إبْرَاءِ الْإِسْقَاطِ فَالْأَقَلُّ يَكُونُ مُتَيَقَّنًا وَالْأَكْثَرُ مَشْكُوكًا فِيهِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ. الْفَرْقُ بَيْنَ بَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ وَبَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ.
يُوجَدُ بَيْنَ هَذَيْنِ الإبراءين فُرُوقٌ عَلَى أَرْبَعِ صُوَرٍ: الصُّورَةُ الْأُولَى فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَقَدْ بُيِّنَ آنِفًا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ إبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ إنْشَاءٌ فَلَا تُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَى الْكَذِبِ أَمَّا إبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ إخْبَارٌ فَتُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَى الْكَذِبِ الْمُبَيَّنَةُ فِي الْمَادَّةِ (الـ ١٥٨٩) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ إذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بَعْدَ إيفَائِهِ الدَّيْنَ إبْرَاءَ إسْقَاطٍ فَلِلْمَدِينِ اسْتِرْدَادُ الدَّيْنِ الَّذِي دَفَعَهُ. أَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ إبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ إبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ أَقَلُّ، وَإِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ أَكْثَرُ.
ثَانِيًا إنَّ بَعْضَ أَلْفَاظِ الْإِبْرَاءِ عَامَّةٌ وَشَامِلَةٌ كَافَّةَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَالْغَصْبِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْحُقُوقِ الْغَيْرِ مَالِيَّةٍ كَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَتَشْمَلُ الدُّيُونَ وَالْأَعْيَانَ كَقَوْلِك: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، فَكَلِمَةُ قِبَلَ تَشْمَلُ الْأَمَانَاتِ وَالْمَضْمُونَاتِ (مُحِيطُ الْبُرْهَانِ) اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (الـ ١٥٦١) ، وَبَعْضُهَا يُسْتَعْمَلُ لِلدُّيُونِ كَقَوْلِك: هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ خَاصٌّ بِالدُّيُونِ وَلَا يَشْمَلُ الْأَمَانَاتِ. لِأَنَّ كَلِمَةَ " عَلَيْهِ " لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الدُّيُونِ، وَالْأَمَانَاتُ لَا تَدْخُلُ فِي الدُّيُونِ. وَبَعْضُهَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِالْأَمَانَاتِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الدَّيْنُ وَالْغَصْبُ كَقَوْلِك: هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عِنْدَهُ، أَوْ لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ شَيْءٌ. فَبِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَحْصُلُ الْإِبْرَاءُ مِنْ الْأَمَانَاتِ فَقَطْ. لِأَنَّ كَلِمَةَ " عِنْدَ " تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَضْمُونَاتِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَحَدٌ: إنَّ عِنْدِي لِفُلَانٍ عَشْرَ دَنَانِيرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْ أَقَرَّ بِالْأَمَانَةِ. كَذَلِكَ كَلِمَةُ " مَعَ " تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّيُونِ. لِأَنَّ الْأَمَانَاتِ قَائِمَةٌ فَلِذَلِكَ يُتَصَوَّرُ مُقَارَنَتُهَا مَعَ شَخْصٍ. أَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ وَلَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مُقَارَنَتُهُ مَعَ شَخْصٍ (مُحِيطُ الْبُرْهَانِ وَرِسَالَةُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ) .
ثَالِثًا الْإِبْرَاءُ إمَّا خَاصٌّ، أَوْ عَامٌّ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُمَا فِي الْمَادَّتَيْنِ الْآتِيَتَيْنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute