سُؤَالٌ: إنَّ خُصُومَةَ الْمُدَّعِي بِغَيْرِ حُجَّةٍ غَدْرٌ وَمَا يَأْخُذُهُ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ لِكَفِّ الْيَدِ عَنْ تِلْكَ الْخُصُومَةِ وَأَخْذُ الْمَالِ لِلْكَفِّ عَنْ الْغَدْرِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الْأَخْذُ رِشْوَةً، وَإِعْطَاءُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَالَ بِذَاكَ الْمَقْصِدِ إرْشَاءٌ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ.
الْجَوَابُ: أَنَّ إعْطَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَالَ هُوَ لِدَفْعِ الْغَدْرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا مَا أَخَذَهُ الْمُدَّعِي مِنْ الْمَالِ فَلَا يَأْخُذُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ يَأْخُذُهُ اعْتِيَاضًا عَنْ حَقِّهِ، فَلَا يَكُونُ ارْتِشَاءً فِي حَقِّ الْمُدَّعِي (الْكِفَايَةُ بِتَغْيِيرٍ مَا) وَتَتَفَرَّعُ الْمَسَائِلُ الْآتِيَةُ عَنْ كَوْنِ الصُّلْحِ الْمَذْكُورِ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْمُدَّعِي.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَجْرِي الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ حَسَبَ زَعْمِهِ فَيُؤَاخَذُ بِزَعْمِهِ، وَلَا يَمْنَعُ إنْكَارُ الْآخَرِ الْمُعَاوَضَةَ جَرَيَانَ شُفْعَةٍ، وَفِي هَذَا كَأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الْمَالَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ (الْكِفَايَةُ وَمَجْمَعُ الْأَنْهُرِ) اُنْظُرْ شَرْحَ الْمَادَّةِ (٩٥٠) فَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدٌ عَنْ الدَّارِ الَّتِي تَحْتَ يَدِهِ: إنَّنِي أَخَذْتُهَا مِنْ زَيْدٍ، وَأَنْكَرَ زَيْدٌ ذَلِكَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ زَعْمَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ (الزَّيْلَعِيّ) إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ.
مَثَلًا لَوْ ادَّعَى الْمُدَّعِي بِعَرْصَةٍ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحَصَلَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ عَلَى دَارِ فَتَجْرِي الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ، وَلَا تَجْرِي فِي الْعَرْصَةِ كَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَحَدٌ عَلَى آخَرَ فِي الْعَقَارِ الَّذِي تَحْتَ يَدِهِ وَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَوْ بَعْدَ أَنْ سَكَتَ تَصَالَحَ مَعَ الْمُدَّعِي عَلَى مَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ فَلَا تَجْرِي الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ بِعَقْدِهِ الصُّلْحَ قَدْ اسْتَبْقَى الْعَقَارَ الَّذِي كَانَ مُلُوكًا لَهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّ الْمَبْلَغَ الَّذِي دَفَعَهُ لِلْمُدَّعِي بَدَلَ صُلْحٍ لَمْ يَكُنْ عِوَضًا لِلْعَقَارِ بَلْ إنَّ مَا دَفَعَهُ مِنْ الْمَالِ كَانَ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ أَيْ أَنَّ الْمُصَالِحَ يَزْعُمُ هَذَا الزَّعْمَ.
وَإِنْ يَكُنْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ بِأَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الْعَقَارَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ بِزَعْمِهِ، وَزَعْمُ الْمُدَّعِي هَذَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُدَّعِي، وَلَهُ حَقُّ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي؛ فَلِذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ مُدَّعَاهُ فَلَهُ أَخْذُ الْعَقَارِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَدْ تَبَيَّنَ بِأَنَّ الصُّلْحَ الْوَاقِعَ كَانَ بِمَعْنَى الْبَيْعِ.
كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَدَى الشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ، وَاسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ لَمْ يَكُنْ عَقَارَ الْمُدَّعِي، وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الْعَقَارِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ بِالشُّفْعَةِ (الشُّرُنْبُلَالِيُّ مَجْمَعُ الْأَنْهُرِ وَالْكِفَايَةُ وَالدُّرَرُ وَالزَّيْلَعِيّ) اُنْظُرْ شَرْحَ الْمَادَّةِ (١٠٢١) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَإِذَا اُسْتُحِقَّ كُلُّ الْمُصَالَحِ عَنْهُ، أَوْ بَعْضُهُ فَيَرُدُّ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ مِنْ بَدَلِ الصُّلْحِ أَيْ كُلِّهِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَبَعْضِهِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ أَعْطَى بَدَلَ الصُّلْحِ لِلْمُدَّعِي لِأَجْلِ دَفْعِ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي، وَلِإِبْقَاءِ الْمُدَّعَى بِهِ بِلَا خُصُومَةٍ فِي يَدِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِاسْتِحْقَاقِهِ أَنْ لَيْسَ مِنْ خُصُومَةٍ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute