إنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا أَنَّهُ لَا يُعَدُّ إقْرَارًا بِالْمُدَّعَى بِهِ لَا يَقُومُ أَيْضًا مَقَامَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ، وَالْحَالُ لَوْ أَنَّهُ قَالَ الْمُزَكُّونَ: إنَّ هَذَا الشَّاهِدَ عَدْلٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ هَذَا تَعْدِيلًا لِلشُّهُودِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمَادَّةِ (١٧١٨) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَسَبَ زَعْمِ الْمُدَّعِي وَالشُّهُودِ هُوَ ظَالِمٌ وَكَاذِبٌ لِإِنْكَارِهِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَتَعْدِيلُ وَتَزْكِيَةُ الظَّالِمِ وَالْكَاذِبِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكَّى عَدْلًا وَصَادِقًا بِالْإِجْمَاعِ (الشِّبْلِيُّ) أَمَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إلَيْهِمْ فِي تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ أَيْ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَادَّةِ (١٧١٧) وَعَدْلًا وَرُوجِعَ فِي أَمْرِ التَّزْكِيَةِ فَيَصِحُّ تَعْدِيلُهُ وَتَزْكِيَتُهُ (التَّنْوِيرُ وَشَرَحَهُ وَأَبُو السُّعُودِ) .
أَمَّا عِنْدَ الْإِمَامِ فَإِذَا لَمْ يُطْعَنْ بِالشُّهُودِ فَلَا حَاجَةَ لِتَزْكِيَتِهِمْ وَيُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ بِنَاءً عَلَى عَدَالَتِهِمْ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ ظَاهِرًا وَالْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ فِي ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَيْضًا بِالتَّزْكِيَةِ؛ لِأَنَّ تَزْكِيَةَ الْمُزَكَّى تَكُونُ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الشَّاهِدِ أَيْ بِانْزِجَارِهِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ الدِّينِيَّةِ وَبِاجْتِهَادِهِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَهَذِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَلَيْسَتْ قَطْعِيَّةً حَيْثُ إنَّ احْتِمَالَ فَسَادِ اعْتِقَادِ الشَّاهِدِ غَيْرُ مُفْسَدٍ (سَعْدِي الْحَلَبِيُّ) وَقَدْ رَجَّحَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ قَوْلَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ. أَمَّا فِي الْمَجَلَّةِ فَقَدْ رَجَّحَ قَوْلَ الْإِمَامَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَجَلَّةَ قَدْ بَيَّنَتْ لُزُومَ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ سَوَاءٌ طُعِنَ فِيهِمْ أَوْ لَمْ يُطْعَنْ كَمَا أَنَّ مَشَايِخَ الْإِسْلَامِ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ قَدْ أَفْتَوْا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَتَلْزَمُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ:
١ - تَجِبُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَوْ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَائِرَةٌ فَيُسْأَلُ عَنْهَا عَسَى أَنْ يَطْلُعَ مَا يَسْقُطُ بِهِ ذَلِكَ.
٢ - كَذَلِكَ إذَا طُعِنَ بِالشُّهُودِ تَجِبُ تَزْكِيَتُهُمْ (الْعِنَايَةُ) .
سِرًّا وَعَلَنًا - وَسَبَبُ التَّزْكِيَةِ سِرًّا وَعَلَنًا هُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الشُّهُودُ غَيْرَ عُدُولٍ فَيُمْكِنُ أَلَّا يَقْدِرَ الْمُزَكِّي عَلَى الْجَرْحِ عَلَنًا لِبَعْضِ أَسْبَابٍ كَخَوْفِ الْمُزَكِّي عَلَى نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ قَدْ وُضِعَتْ التَّزْكِيَةُ السِّرِّيَّةُ حَتَّى يَكُونَ الْمُزَكِّي قَادِرًا عَلَى الْجَرْحِ (أَبُو السُّعُودِ) أَمَّا سَبَبُ التَّزْكِيَةِ الْعَلَنِيَّةُ فَهُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّخِذَ الشُّهُودُ اسْمَ وَنَسَبَ وَشُهْرَةَ شَخْصٍ آخَرَ فَيَشْهَدُونَ مُنْتَحِلِينَ أَسْمَاءَ وَشُهْرَةَ غَيْرِهِمْ وَحَيْثُ إنَّهُمْ قَدْ انْتَحَلُوا أَسْمَاءَ أَشْخَاصٍ عَادِلِينَ وَمَقْبُولِي الشَّهَادَةِ فَعِنْدَ تَزْكِيَتِهِمْ السِّرِّيَّةِ يَظُنُّهُمْ الْمُزَكُّونَ أُولَئِكَ الْأَشْخَاصَ الَّذِينَ انْتَحَلُوا أَسْمَاءَهُمْ فَدَفْعًا لِلِاشْتِبَاهِ وَجَبَ إجْرَاءُ التَّزْكِيَةِ الْعَلَنِيَّةِ (الْوَلْوَالِجِيَّةِ فِي آدَابِ الْقَاضِي) وَالتَّزْكِيَةُ الْعَلَنِيَّةُ لِنَفْيِ تُهْمَةِ شُبْهَةِ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ مِنْ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي قَبِيلَتِهِ مِنْ يُوَافِقُ فِي الِاسْمِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْمُفْتَى بِهِ الِاكْتِفَاءُ بِالتَّزْكِيَةِ سِرًّا فَقَطْ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ الْعَلَنِيَّةَ هِيَ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ إلَّا أَنَّ الْمَجَلَّةَ قَدْ بَيَّنَتْ لُزُومَ التَّزْكِيَةِ سِرًّا وَعَلَنًا فَإِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِلَا تَزْكِيَةٍ كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (١٣٠٣) (وَالدُّرَرُ وَالنَّتِيجَةُ وَالشِّبْلِيُّ) .
إذَا تَحَقَّقَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ سِرًّا وَعَلَنًا يُنْذِرُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سَيَحْكُمُ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute