إنَّ الْعَدْلَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاضِي هُوَ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ وَبِالنِّسْبَةِ لِلْوَالِي هُوَ الْإِنْصَافُ بِدُونِ غَدْرٍ. وَالْعَادِلُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ الْبَابِ الثَّانِي وَيُطْلَقُ تَعْبِيرُ عَدْلٍ عَلَى الرَّجُلِ الْوَدُودِ. قَاضٍ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حَكِيمًا أَيْ مُتَّقِيًا وَصَالِحًا غَيْرَ فَاسِقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ الْفَاسِقُ عَلَى الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ لِفِسْقِهِ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ فِي دِينِهِ كَمَا بُيِّنَ نُبْذَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَكَمَا سَيُفَصَّلُ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (١٧٩٤) .
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حَكِيمًا أَيْ عَاقِلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ وَالنَّفْسُ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ (الْكُلِّيَّاتُ) . وَالْعَقْلُ بِتَعْرِيفٍ آخَرَ هُوَ نُورٌ رُوحَانِيٌّ تُدْرِكُ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِهِ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ يَبْتَدِئُ وُجُودُهُ حِينَمَا يَسْتَكْمِلُ الْجَنِينُ خِلْقَتَهُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ وَيَنْمُو تَدْرِيجًا حَتَّى الْبُلُوغِ. فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُوَجَّهَ الْقَضَاءُ إلَى نَاقِصِ الْعَقْلِ أَوْ لِلْأَحْمَقِ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَقَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ لَوَازِمِ الْعَدْلِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَالْحُمُقُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْمِيمِ بِمَعْنَى قِلَّةِ الْعَقْلِ. الْأَحْمَقُ بِوَزْنِ أَحْمَرَ صِفَةٌ مِنْ الْبَابِ الْخَامِسِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَافِلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ، وَالْحَسَنَ مِنْ السَّيِّئِ. وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحُمْقِ هِيَ طُولُ اللِّحْيَةِ، وَالتَّلَفُّتُ إلَى الْجَوَانِبِ كَثِيرًا، وَالْعَجَلَةُ فِي الْأُمُورِ بِدُونِ النَّظَرِ إلَى عَوَاقِبِهَا وَنَتَائِجِهَا وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: (إنَّنِي أَبْرَأْتُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَمَّا الْأَحْمَقُ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُبْرِئَهُ) أَبُو السُّعُودِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ دَوَاءَ الْحُمْقِ هُوَ الْمَوْتُ وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَحْثِ الْكِنَايَاتِ مِنْ الْمُطَوَّلِ بِأَنَّ عَرْضَ الْقَفَا وَعِظَمَ الرَّأْسِ بِصُورَةٍ مُفْرِطَةٍ تَدُلُّ عَلَى بَلَاهَةِ الرَّجُلِ. (فِيهِمَا) مِنْ الْفَهْمِ بِوَزْنِ وَهْمٍ أَمَّا الْفَهِمُ بِوَزْنِ الْكَتِفِ فَتُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ الْفَطِينِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِيمًا أَيْ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْفِقْهِ بَلْ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ وَآثَارِهَا (الزَّيْلَعِيّ) .
وَلَا يَلِيقُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ الْقَضَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَمَا قَلَّدَ قَضَاءَ الْيَمَنِ مُعَاذًا امْتَحَنَهُ سَائِلًا إيَّاهُ: بِمَاذَا سَتَحْكُمُ يَا مُعَاذُ؟ فَأَجَابَهُ مُعَاذٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَاذَا تَحْكُمُ؟ . فَأَجَابَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَقَالَ: وَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ؟ . فَأَجَابَهُ أَجْتَهِدُ. فَقَالَ لَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُهُ» (الْوَلْوَالِجِيَّةِ) وَلَمْ يَذْكُرْ مُعَاذٌ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ ٢ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّةً (فَتْحُ الْقَدِيرِ) . وَلَمَّا كَانَ الْقَاضِي مَأْمُورًا بِالْحُكْمِ وَفْقًا لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَيَقْتَضِي لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ مَحْدُودَةٌ وَالنُّصُوصَ مَعْدُودَةٌ فَلَا يَجِدُ الْقَاضِي نَصًّا لِتَطْبِيقِهَا فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَيَحْتَاجُ لِاسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى مِنْ النُّصُوصِ، وَلَا يَتَيَسَّرُ ذَلِكَ إلَّا لِلْعَالِمِ الِاجْتِهَادِيِّ (الْوَلْوَالِجِيَّةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ آدَابِ الْقَاضِي) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute