فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْجَاهِلِ أَلَا يَقْبَلَ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ» وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْقَاضِيَيْنِ هُوَ الْقَاضِي الْجَاهِلُ الَّذِي يَحْكُمُ عَنْ جَهْلٍ - وَالْقَاضِي الْعَالِمُ الَّذِي يَحْكُمُ عَنْ جَوْرٍ. وَقَوْلُ الْمَجَلَّةِ فِي الْمَادَّةِ الْآتِيَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَاقِفًا عَلَى الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَعَلَى أُصُولِ الْمُحَاكَمَةِ، وَمُقْتَدِرًا عَلَى فَصْلِ وَحَسْمِ الدَّعَاوَى تَطْبِيقًا لَهُمَا هُوَ لِإِيضَاحِ الْفَهْمِ وَتَفْصِيلٍ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. وَكَمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالْفِقْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَارِّ ذِكْرُهُ يَجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ يُدْرِكُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ (الزَّيْلَعِيّ) . وَلِذَلِكَ قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ اعْرَفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ (الْوَلْوَالِجِيَّةِ) .
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِيمًا أَيْ فَطِينًا، وَأَنْ يَسْتَجْمِعَ أَثْنَاءَ الْمُحَاكَمَةِ فَهْمَهُ وَذِهْنَهُ؛ لِأَنَّ فَصْلَ الْخُصُومَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفَهُّمِ كَلَامِ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُحْتَمَلِ حِينَمَا يُقَرِّرُ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ أَنْ يَلْفِظَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالٍ فِي دَعْوَاهُ وَفِي هَذَا الْحَالِ لَوْ أُثْبِتَتْ الدَّعْوَى بِشُهُودٍ فَلَا يَحْكُمُ بِهَا. كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَفُوهَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِكَلَامٍ يُعَدُّ إقْرَارًا، وَفِي هَذَا الْحَالِ لَا يَحْتَاجُ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي فَعَلَيْهِ إذَا لَمْ يَسْتَجْمِعْ الْقَاضِي فَهْمَهُ وَيُبَالِغْ فِي اسْتِمَاعِ كَلَامِ الطَّرَفَيْنِ وَيَقِفْ عَلَى مَعْنَى أَقْوَالِهِمَا تَضِيعُ إفَادَاتُهُمَا وَلَا يَحْصُلُ فَائِدَةٌ مِنْهَا وَلِهَذَا السَّبَبِ قَدْ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَائِلًا الْفَهْمَ الْفَهْمَ وَقَدْ كَرَّرَ الْكَلَامَ لِلتَّأَكُّدِ قَائِلًا فَرِّغْ خَاطِرَك وَفَهْمَك حَتَّى تَفْهَمَ الشَّيْءَ الْمَطْلُوبَ (الْوَلْوَالِجِيَّةِ) . وَإِنَّ قَوْلَ الْمَجَلَّةِ فِي الْمَادَّةِ ٤ (١٨١٢) يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَلَا يَتَصَدَّى لِلْحُكْمِ إذَا تَشَوَّشَ ذِهْنُهُ بِعَارِضَةٍ مَانِعَةٍ لِصِحَّةِ التَّفَكُّرِ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَيُشَارُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فَهِيمًا بِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ فَهِيمًا أَيْ عَالِمًا بَلْ كَانَ جَاهِلًا جَازَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَهَذَا يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِفَتْوَى الْغَيْرِ أَيْضًا (مَجْمَعُ الْأَنْهُرِ) حَتَّى إنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَّقِيَ أَوْلَى مِنْ الْقَاضِي الْعَالِمِ الْفَاسِقِ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْجَاهِلِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مِنْ الْغَيْرِ وَيْحُكُمْ كَمَا جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (١٨١١) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَنْ جَهْلٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي إحْدَى مَعْرُوضَاتِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي السُّعُودِ فِي أَوَائِلِ الْعَهْدِ الْعُثْمَانِيِّ (بِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ تَسَاوٍ فِي الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا بَيْنَ قُضَاةِ زَمَانِنَا فَقَدْ صَدَرَ الْأَمْرُ بِتَرْجِيحِ الْأَفْضَلِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ، وَالْعَدَالَةِ عَلَى غَيْرِهِ) أَمَّا الطَّحْطَاوِيُّ فَيَقُولُ فِي مَعْرِضِ جَوَابِهِ عَلَى أَبِي السُّعُودِ (إنَّ هَذَا التَّسَاوِيَ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ) أَمَّا فِي هَذَا الزَّمَنِ (عَصْرِ الطَّحْطَاوِيُّ) فِي حَالِ عَدَمِ التَّسَاوِي فِي الْعَدَالَةِ فَمَنْ الَّذِي يُرَجَّحُ؟ (الدُّرُّ الْمُخْتَارُ وَرَدُّ الْمُحْتَارِ) . إنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمَّا عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْعِلْمُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْقَضَاءِ فَإِذَا فُوِّضَ الْقَضَاءُ لِجَاهِلٍ فَلَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَحُكْمُ الْقَاضِي بَاطِلٌ (الْخَانِيَّةُ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute