فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَقَدْ حَرُمَ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَاء مُسْتَعْمَلًا، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَصُبَّ مِنْهُ عَلَى يَدِهِ، فَإِذَا وَضَّأَهَا أَدْخَلَهَا حِينَئِذٍ فِي الْإِنَاءِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ «رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَهْيِهِ الْجُنُبَ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَالُوا: إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَهُمْ: بَلْ مَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا خَوْفَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إحْلِيلِهِ شَيْءٌ يُنَجِّسُ الْمَاءَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِهِ، وَمِنْ أَنْ نُقَوِّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَقُلْ، وَأَنْ نُخْبِرَ عَنْهُ مَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا فَعَلَهُ، فَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: ٣٦] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» وَلَا بُدَّ لِمَنْ قَالَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ مِنْ إحْدَى هَاتَيْنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ لِلْمُتَوَضِّئِ وَلَا لِلْمُغْتَسَلِ أَنْ يُرَدِّدَ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَى أَعْضَائِهِ، بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ أَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ، وَبِذَلِكَ جَاءَ عَمَلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْهَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَرْدِيدِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَلَا نَهَى عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطَّ.
وَيُقَالُ لِلْحَنَفِيِّينَ: قَدْ أَجَزْتُمْ تَنْكِيسَ الْوُضُوءِ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَكَّسَ وُضُوءُهُ، وَلَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَأَخْذُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَاءً جَدِيدًا لِكُلِّ عُضْوٍ إنَّمَا هُوَ فِعْلٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَفْعَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تُلْزَمُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ مَسَحُ رَأْسِهِ الْمُقَدَّسِ بِفَضْلِ مَاءٍ مُسْتَعْمَلٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute