قُلْنَا، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: هَذَا لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا -: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِصَاصِ وَالِاعْتِدَاءِ عُمُومٌ، ثُمَّ قَدْ يَخُصُّ بِالْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ بَعْضُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الصَّادِقِ {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: ٤٥] وَلَا بِقَوْلِهِ الصَّادِقِ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: ٤٠] مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا لِمَنْ لَا عَفْوَ لَهُ وَلَا صَدَقَةَ، كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، فَيَكُونُ الْمَيِّتُ دَاخِلًا فِي هَذَا الْعُمُومِ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ - وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: ٤٠] وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} [المائدة: ٤٥] وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى فَإِنْ تَصَدَّقَ الْمَجْرُوحُ وَحْدَهُ، وَلَا قَالَ فَمَنْ عَفَا مِنْ الَّذِينَ الْعَفْوُ إلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَلَكِنْ أَجْمَلَ - عَزَّ وَجَلَّ - الْأَمْرَ، فَجَائِزٌ عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَصَدَقَتُهُ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَهُ عَفْوٌ وَصَدَقَةٌ، وَجَائِزٌ عَفْوُ الْوَلِيِّ إذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَفْوٌ وَيَئِسَ مِنْ ذَلِكَ؟ وَأَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا يَرَوْنَ الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَيِّتٍ كَفَنَهُ - وَبِهِ نَأْخُذُ، وَعَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى بِمَيِّتَةٍ، فَإِنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا رَأَوْهُ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْقَوَدِ لَهُ مِنْ الْجُرْحِ وَالْكَسْرِ - وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ أَصْلًا لِبَعْضٍ، بَلْ كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا جَاءَ النَّصُّ بِإِيجَابِ حُكْمٍ عَلَى عَامِلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَوَاجِبٌ إنْفَاذُ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى مَنْ عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ؟ .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا قَوْلٌ يُؤَيِّدُهُ النَّظَرُ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ بِالصِّحَّةِ، وَمَا نَعْلَمُ هَاهُنَا قَوْلًا لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَمْنَعُ مِنْهُ، فَكَيْفَ أَنْ يَصِحَّ الْإِجْمَاعُ مِنْ جَمِيعِهِمْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ؟ هَذَا أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَوُجِدَ بِلَا شَكٍّ، وَلَمَا اخْتَفَى، فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ - وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلٌ بِذَلِكَ - إذَا لَمْ يَصِحَّ إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ بِتَخْصِيصِ النَّصِّ، أَوْ بِنَسْخِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
[مَسْأَلَةٌ الْوَكَالَةُ فِي الْقَوَدِ]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute