للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمْرُ الْوَلِيِّ بِأَنْ يُؤْخَذَ لَهُ الْقَوَدُ جَائِزٌ لِبَرَاهِينَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: ٢] وَالْقَوَدُ: بِرٌّ وَتَقْوَى، فَالتَّعَاوُنُ فِيهِ وَاجِبٌ.

وَثَانِيهَا: مَا قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرِهِ بِالْقَوَدِ مِنْ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَخَ رَأْسَ الْجَارِيَةِ بِالْحَجَرِ، فَكَانَ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُمُومًا لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ.

وَثَالِثُهَا: إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَوْجَبَ لَهُ مَا لِوَلِيٍّ مِنْ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ مَنْ يَقْتُلُ، وَالسُّلْطَانُ وَلِيٌّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَجَائِزٌ، إذَا أَمَرَ الْمُولَى مَنْ يَأْخُذُ لَهُ الْقَوَدَ أَنْ يَغِيبَ فَيَسْتَقِيدَ الْمَأْمُورُ، وَهُوَ غَائِبٌ، إذْ قَدْ وَجَبَ الْقَوَدُ بِيَقِينِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْوَلِيُّ فِي ذَلِكَ مِنْ مَغِيبٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: ٦٤] .

فَإِنْ غَابَ الْوَلِيُّ ثُمَّ عَفَا، فَلَيْسَ عَفْوُهُ بِشَيْءٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ - وَلَا يَصِحُّ عَفْوُ الْوَلِيِّ إلَّا بِأَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الْمَأْمُورَ بِالْقَوَدِ وَيَصِحُّ عِنْدَهُ.

بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لِلْمَأْمُورِ بِأَخْذِ الْقَوَدِ، وَأَنْ يَأْتَمِرَ لِلْآمِرِ لَهُ بِذَلِكَ، وَأَبَاحَ لَهُ دَمَ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ، وَأَعْضَاءَهُ بِيَقِينٍ لَا شَكَّ بِهِ، فَإِذَا عَفَا الْوَلِيُّ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْمَأْمُورِ بِالْقَوَدِ فَهُوَ مُضَارٌ، وَالْمُضَارُ مُتَعَدٍّ، وَالْمُتَعَدِّي ظَالِمٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» فَلَا حَقَّ لِذَلِكَ الْعَفْوِ الَّذِي هُوَ مُضَارَّةٌ مَحْضَةٌ، وَهُوَ غَيْرُ الْعَفْوِ الَّذِي حَضَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ الَّذِي حَضَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ طَاعَةٌ، وَعَفْوُ الْمُضَارَّةِ مَعْصِيَةٌ، وَالْمَعْصِيَةُ غَيْرُ الطَّاعَةِ، وَهَذَا الْعَفْوُ بَعْدَ الْأَمْرِ: هُوَ عَفْوٌ بِخِلَافِ الْعَفْوِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَادِبًا إلَيْهِ، وَإِذْ هُوَ غَيْرُهُ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِذَلِكَ الْعَافِي، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى قَوَدِهِ.

فَلَوْ بَعَثَ رَسُولًا إلَى الْمَأْمُورِ بِالْقَوَدِ فَلَا حُكْمَ لَهُ إلَّا حَتَّى يَبْلُغَ إلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>