وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنَّنَا رُوِّينَا عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ الصَّدَقَةَ جُمْلَةٌ تَتِمُّ بِلَا حِيَازَةٍ - وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ بَاطِلٌ، فَلَوْ عَمِلْنَا ذَلِكَ لَمَا أَجَزْنَاهَا، إذْ كُلُّ عَمَلٍ عُمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَنُبْطِلُ قَوْلَهُ فِي الْهِبَةِ بِمَا أَبْطَلْنَا بِهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّ الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ الْمُطْلَقَةِ يَمْلِكُهَا أَرْبَابُهَا، فَاحْتَاجُوا إلَى الْقَبْضِ - وَأَمَّا الْحُبَسُ فَلَا مَالِكَ لَهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي قَبْضَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا قَابِضَ لَهَا دُونَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: الْأَرْضُ كُلُّهَا وَكُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ عَنْ مِلْكِهِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ، وَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِذَا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] ، وَهَذَا مَكَانُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لَا حَيْثُ احْتَجُّوا بِهَا مِمَّا بَيَّنَتْ السُّنَنُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: ٣٣] .
وَمَنْ تَلَفَّظَ بِالْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلًا، وَعَقَدَ عَقْدًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ إبْطَالُهُ إلَّا بِنَصٍّ، وَلَا نَصَّ فِي إبْطَالِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
[مَسْأَلَة الرُّجُوع فِي الْهِبَة]
١٦٣١ - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا أَصْلًا مُذْ يَلْفِظُ بِهَا إلَّا الْوَالِدَ، وَالْأُمَّ فِيمَا أَعْطَيَا، أَوْ أَحَدُهُمَا لِوَلَدِهِمَا فَلَهُمَا الرُّجُوعُ فِيهِ أَبَدًا - الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ.
وَسَوَاءٌ تَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ الِابْنَةُ عَلَى تِلْكَ الْعَطِيَّةِ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجَا، دَايَنَا عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُدَايِنَا، فَإِنْ فَاتَ عَيْنُهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُمَا بِشَيْءٍ، وَلَا رُجُوعَ لَهُمَا بِالْغَلَّةِ وَلَا بِالْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْهِبَةِ، فَإِنْ فَاتَ الْبَعْضُ وَبَقِيَ الْبَعْضُ كَانَ لَهُمَا الرُّجُوعُ فِيمَا بَقِيَ فَقَطْ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمَا.