وَخَالَفَ فِي هَذَا بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: ٤٠] فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَزَقَ الْجَمِيعَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَمْ نُخَالِفْهُ فِي الرِّزْقِ، بَلْ الرِّزْقُ مُتَيَقَّنٌ، وَأَوَّلُهُ لَبَنُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، فَلَوْلَا رِزْقُ اللَّهِ تَعَالَى مَا عَاشَ أَحَدٌ يَوْمًا فَمَا فَوْقَهُ، وَلَيْسَ مِنْ كُلِّ الرِّزْقِ يُنْصَفُ الْغُرَمَاءُ، وَإِنَّمَا يُنْصَفُونَ مِنْ فُضُولِ الرِّزْقِ وَهِيَ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَاهَا الْإِنْسَانَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
وَأَمَّا الْمُؤَاجَرَةُ: فَلِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِهَذِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. ١٢٧٨ - مَسْأَلَةٌ:
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] يَمْنَعُ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ؟ قُلْنَا: بَلْ يُوجِبُ اسْتِئْجَارَهُ؛ لِأَنَّ الْمَيْسَرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ -: إمَّا بِسَعْيٍ، وَإِمَّا بِلَا سَعْيٍ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: ١٠] فَنَحْنُ نُجْبِرُهُ عَلَى ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَمَرَهُ تَعَالَى بِابْتِغَائِهِ، فَنَأْمُرُهُ وَنُلْزِمُهُ التَّكَسُّبَ لِيُنْصِفَ غُرَمَاءَهُ وَيَقُومَ بِعِيَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَلَا نَدَعُهُ يُضَيِّعُ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ وَالْحَقَّ اللَّازِمَ لَهُ.
[مَسْأَلَةٌ الْمدين إذَا كَانَ لَهُ مَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ وَيَفْضُلُ لَهُ]
١٢٧٩ - مَسْأَلَةٌ:
وَلَا يَخْلُو الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ يُوجَدُ لَهُ مَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ وَيَفْضُلُ لَهُ، فَهَذَا يُبَاعُ مِنْ مَالِهِ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ فَيُنْصَفُ مِنْهُ غُرَمَاؤُهُ، وَمَا تَلِفَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ فَمِنْ مُصِيبَتِهِ لَا مِنْ مُصِيبَةِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ فِي ذِمَّتِهِ لَا فِي، شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ يَفِي بِمَا عَلَيْهِ وَلَا يَفْضُلُ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ لَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ -: فَهَذَانِ يَقْضِي بِمَا وُجِدَ لَهُمَا لِلْغُرَمَاءِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُبَاعُ لَهُمْ إنْ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، فَمَا تَلِفَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُمْ بِمَالِهِ فَمِنْ مُصِيبَةِ الْغُرَمَاءِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ دَيْنِهِمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ قَدْ صَارَ لَهُمْ إنْ شَاءُوا اقْتَسَمُوهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى، بَيْعِهِ بِيعَ لَهُمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ -: أَنَّهُ إذَا وَفَّى بَعْضَ مَالِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ أَوْلَى بِأَنْ يُبَاعَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ، فَيُنْظَرُ: أَيُّ مَالِهِ هُوَ عَنْهُ فِي غِنًى فَيُبَاعُ، وَمَا لَا غِنًى بِهِ عَنْهُ فَلَا يُبَاعُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَتَرْكُ الْمُضَارَّةِ، فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ لَا غِنًى بِهِ عَنْهُ أُقْرِعَ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَالِ، فَأَيُّهَا خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ بِيعَ فِيمَا أُلْزِمَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute