قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ هَذَا قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلَافَ الْجُمْهُورِ؛ وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَجُمْهُورَ التَّابِعِينَ؛ فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِابْنِ عُمَرَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ أَنْ تَسْدُلَ عَلَى وَجْهِهَا وَقَدْ خَالَفُوهُ، وَرُوِّينَا عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا؛ فَمَرَّةً هُوَ حُجَّةٌ، وَمَرَّةً لَيْسَ هُوَ حُجَّةً، أُفٍّ لِهَذَا عَمَلًا؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ إحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا كَانَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ أَحَقُّ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالًا مِنْهَا فِي الْإِحْرَامِ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالسُّنَّةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ فِي الْإِحْرَامِ كَشْفُ رَأْسِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَاتَّفَقَا فِي أَنْ لَا يَلْبَسَا قُفَّازَيْنِ وَاخْتَلَفَا فِي الثِّيَابِ، فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا فِي تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ؟ إنَّ هَذَا الْقِيَاسَ سَخِيفٌ جِدًّا، وَأَيْضًا: فَقَدْ كَذَبُوا وَمَا نُهِيَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا؛ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ لَهَا فِي الْإِحْرَامِ - وَإِنْ نُهِيَتْ عَنْ النِّقَابِ فَقَطْ - فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ؟ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِهِ فِي الَّذِي مَاتَ مُحْرِمًا أَنْ لَا يُخَمَّرَ رَأْسُهُ، وَلَا وَجْهُهُ رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ جَمَّةٍ -: مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو كُرَيْبٍ نَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: إنَّ الْحَيَاءَ لَفَضِيلَةٌ، وَكَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ، وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَوَّلُ عَاصٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ فَلَا يَرَوْنَ فِيمَنْ مَاتَ مُحْرِمًا أَنْ يُكْشَفَ رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ؛ بَلْ يُغَطُّونَ كُلَّ ذَلِكَ ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي أَنْ لَا يُغَطِّيَ الْحَيُّ الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ.
وَيَقُولُونَ: إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا وَخَالَفَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ ذَلِكَ الْخَبَرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute