قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ أَقْوَى مِنْ الْمُسْنَدِ وَيَأْخُذُونَ بِهِ إذَا وَافَقَهُمْ، فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا هَاهُنَا بِهَا فَلَا مُرْسَلَ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاسِيلِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّمَا مُعَوَّلُنَا عَلَى عُمُومِ الْآيَةِ فَقَطْ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ؟ قُلْنَا: فَلَا تَأْخُذُوهَا مِنْ الْمَرْضَى، وَلَا مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ لَزِمُوا بُيُوتَهُمْ وَأَسْوَاقَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا.
فَإِنْ قَالُوا: أَوَّلُ الْآيَةِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ إنْ قَاتَلُونَا حَتَّى يُعْطِيَ جَمِيعُهُمْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ كَمَا فِي نَصِّ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ يُقِيمُونَ أَضْعَافَ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ مَقَامَ الْجِزْيَةِ، ثُمَّ يَضَعُونَهَا عَلَى النِّسَاءِ، ثُمَّ يَأْبَوْنَ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ نَهَى عُمَرُ عَنْ أَخْذِهَا مِنْ النِّسَاءِ؟ قُلْنَا: قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ الْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَأَنْتُمْ تُخَالِفُونَهُ، وَفِي أَلْفِ قَضِيَّةٍ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا كَثِيرًا، فَلَا نَدْرِي مَتَى هُوَ عُمَرُ حُجَّةٌ، وَلَا مَتَى هُوَ لَيْسَ حُجَّةً؟ فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كُذِّبُوا، وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَجِدُوا نَهْيًا عَنْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ عُمَرَ - وَمَسْرُوقٌ أَدْرَكَ مُعَاذًا وَشَاهَدَ حُكْمَهُ بِالْيَمَنِ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاطَبَهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُخَالِفَ مُعَاذٌ مَا كَتَبَ إلَيْهِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ نَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يُقَاتَلُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَهَذَا عُمُومٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ - وَهُوَ قَوْلُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ كِتَابِيٍّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute