وَلَئِنْ كَانَ النَّاسُ لَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يُمَيِّزُونَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْرِفُهُ وَيُمَيِّزُهُ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: ٥٢] بَلْ هُوَ عَزَّ وَجَلَّ عَارِفٌ بِهِ، وَبِتَقَلُّبِهِ وَمَثْوَاهُ، كَاتِبٌ لِصَاحِبِهِ أَجْرَ مَا نِيلَ مِنْهُ، وَمَا يَتَنَاسَلُ مِنْهُ فِي الْأَبَدِ.
مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ تَخْتَلِطُ فَلَا تُحَازُ وَلَا تُمَيَّزُ؟ أَتَرَوْنَ الْمِلْكَ يَسْقُطُ عَنْهَا بِذَلِكَ؟ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ الْحَقُّ الْيَقِينُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ إلَى يَوْمِ الْبَعْثِ.
وَنَحْنُ وَإِنْ حَكَمْنَا فِيمَا يُئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّهُ فِي جَمِيعِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ -: فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّ صَاحِبِهِ، وَلَوْ جَاءَ يَوْمًا وَثَبَتَ أَنَّهُ حَقُّهُ لَصَرَفْنَاهُ إلَيْهِ، وَهُوَ لُقَطَةٌ مِنْ اللُّقَطَاتِ يَمْلِكُهُ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِنَصِّ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ إنْ جَاءَ.
وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ بَيْعِ كُلِّ ذَلِكَ؟ وَقَالُوا: إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ بَيْعِهِ لِمَغِيبِهِ؟ قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ أَبْطَلْنَا - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى -: هَذَا الْقَوْلَ وَأَتَيْنَا بِالْبُرْهَانِ عَلَى وُجُوبِ بَيْعِ الْغَائِبَاتِ، وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ -: وَهَذَا لَا شَيْءَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَا يَلْزَمُ وَلَا يُوجِبُهُ قُرْآنٌ، وَلَا سُنَّةٌ وَلَا دَلِيلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنْ لَا يَحُولَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَا اشْتَرَى مِنْهُ فَقَطْ فَيَكُونَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاصِيًا ظَالِمًا، وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ غَرَرٌ؛ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ هَذَا غَرَرًا لِأَنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ قَدْ صَحَّ مِلْكُ بَائِعِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومُ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، فَعَلَى ذَلِكَ يُبَاعُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِلْكًا صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَقَدْ اسْتَعَاضَ الْأَجْرَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَرَبِحَتْ صَفْقَتُهُ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا غَرَرًا لَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ حَاضِرِهِ وَغَائِبِهِ غَرَرًا لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مُشْتَرِيه أَيَعِيشُ سَاعَةً بَعْدَ ابْتِيَاعِهِ أَمْ يَمُوتُ، وَلَا يَدْرِي أَيَسْلَمُ أَمْ يَسْقَمُ سَقَمًا قَلِيلًا يُحِيلُهُ أَوْ سَقَمًا كَثِيرًا يُفْسِدُهُ أَوْ أَكْثَرَهُ؟ وَلَيْسَ مَا يُتَوَقَّعُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ غَرَرًا لِأَنَّ الْأَقْدَارَ تَجْرِي بِمَا لَا يُعْلَمُ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ، وَلِأَنَّهُ غَيْبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: ٦٥] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute