أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ وَمُبِيحَةٌ لِبَسْطِ يَدِهِ كُلَّ الْبَسْطِ، وَلِلتَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، فَيَكُونُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} [التوبة: ٧٩] مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ سُئِلَ عَنْ «أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ» فَإِنَّ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ بَيَّنَهُمَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق أَبِي دَاوُد نا قُتَيْبَةُ نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَأَبْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» .
فَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، وَخَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ إنَّمَا هُمَا فِي جُهْدِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقِلًّا مِنْ الْمَالِ غَيْرَ مُكْثِرٍ إذَا أَبْقَى لِمَنْ يَعُولُ غِنًى وَلَا بُدَّ.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: ٩] فَحَقٌّ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَنْ بِهِ خَصَاصَةٌ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَجْهُودٍ، وَهَكَذَا نَقُولُ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ تَضْيِيعُ نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ هُوَ أَغْنَى مِنْهُ.
وَأَمَّا «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُحَامِلُ فَيَأْتِي بِالْمُدِّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ» فَهَذَا حَسَنٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غِنًى وَلِأَهْلِهِ، وَلَا فَضْلَ عِنْدَهُ فَيَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيُصِيبُ مُدًّا هُوَ عَنْهُ فِي غِنًى فَيَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى «ابْدَأْ بِمِنْ تَعُولُ» - «وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» «، وَرَدُّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ» .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ» تَصْحِيحٌ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ غِنًى، وَفَضَلَ لَهُ دِرْهَمَانِ فَقَطْ فَتَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا، وَكَانَتْ نِسْبَةُ الدِّرْهَمِ مِنْ مَالِهِ أَكْثَرَ مِنْ نِسْبَةِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غِنًى سِوَاهُمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute