قَالَ: إذَا مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدٌ لِأَحَدٍ وَلَا عَصَبَةَ يَرِثُونَ فَإِنَّهُ يُوصِي بِمَالِهِ كُلِّهِ حَيْثُ شَاءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا الْعَالِيَةَ الرِّيَاحِيَّ أَعْتَقَتْهُ مَوْلَاتُه سَائِبَةً، فَلَمَّا اُحْتُضِرَ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِغَيْرِهَا، فَخَاصَمَتْ فِي ذَلِكَ؟ فَقُضِيَ لَهَا بِالْمِيرَاثِ - وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَشَرِيكٍ الْقَاضِي، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ - كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: احْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» .
قَالُوا: فَإِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِلَّةَ فِي أَنْ لَا يُتَجَاوَزَ الثُّلُثُ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُغْنِيَ الْوَرَثَةَ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْعِلَّةُ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا شَاءَ؟ وَقَالُوا: هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ؟ وَقَالُوا: فَلَمَّا كَانَ مَالُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ رَبٌّ، فَإِذْ هُوَ هَكَذَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ لِأَحَدٍ حَقٌّ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضَعَهُ حَيْثُ شَاءَ؟ وَقَالُوا: كَمَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَيْثُ شَاءَ فَكَذَلِكَ لِصَاحِبِهِ؟ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا يَشْغَبُونَ بِهِ غَيْرَ هَذَا وَكُلُّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ
أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي أَنْ لَا يُتَجَاوَزَ الثُّلُثُ غِنَى الْوَرَثَةِ فَبَاطِلٌ مِنْ قَوْلِهِمْ؟ مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطُّ إنَّ أَمْرِي بِأَنْ لَا يُتَجَاوَزَ الثُّلُثُ فِي الْوَصِيَّةِ؟ إنَّمَا هُوَ لِغِنَى الْوَرَثَةِ؟ إنَّمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ؟ فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَحُكْمُ فَصْلٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَا بَعْدَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضِيَّةً أُخْرَى مُبْتَدَأَةً قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا قَبْلَهَا، فَقَالَ «إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» .
بُرْهَانُ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ -: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُنْسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَلَّلَ عِلَّةً فَاسِدَةً مُنْكَرَةً حَاشَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute