يَكُنْ سَكْرَانَ - وَإِنْ أَتَى بِمَا يُعْقَلُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ - لِأَنَّ الْمَجْنُونَ قَدْ يَأْتِي بِمَا يُعْقَلُ، وَيَتَحَفَّظُ مِنْ السُّلْطَانِ وَمِنْ سَائِرِ الْمَخَاوِفِ.
وَأَمَّا مَنْ ثَقُلَ لِسَانُهُ وَتَخَبَّلَ مَخْرَجُ كَلَامِهِ وَتَخَبَّلَتْ مَشَيْته وَعَرْبَدَ فَقَطْ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا لَا يُعْقَلُ - فَلَيْسَ هُوَ سَكْرَانُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ فَهُوَ سَكْرَانُ، وَمَنْ عَلِمَ مَا يَقُولُ فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ.
وَمَنْ خَلَطَ فَأَتَى بِمَا يُعْقَلُ وَمَا لَا يُعْقَلُ فَهُوَ سَكْرَانُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ.
وَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُلْزَمَ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ، لَا طَلَاقًا، وَلَا غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، إذًا لَيْسَ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا - فَمَنْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ مَا قُلْنَا -: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ خِرَاشِ بْنِ مَالِكٍ الْجَهْضَمِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ عُمَانَ تَمَلَّأَ مِنْ الشَّرَابِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ نِسْوَةٌ فَكُتِبَ إلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَأَجَازَ شَهَادَةَ النِّسْوَةِ، وَأَثْبَتَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ - وَهُوَ سَعِيدٌ - عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَجَازَ طَلَاقَ السَّكْرَانِ.
وَرُوِّينَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ لَمْ تَصِحَّ: لِأَنَّ فِي إحْدَى طَرِيقَيْهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ، وَفِي الْأُخْرَى إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى.
وَصَحَّ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ - إلَّا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يَجُوزُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَعِتْقُهُ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ، وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا بَيْعُهُ.