للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُ مَنْ قَلَّدَهُ لِقَوْلِهِمْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ لَا عَلَى غَيْرِهِمْ؟ .

فَقُلْنَا لَهُمْ: فَهَبْكُمْ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، أَتُوجِبُونَهَا أَنْتُمْ عَلَى مَنْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، أَقَرُّوا بِخِلَافِهِمْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْطَلُوا احْتِجَاجَهُمْ الْمَذْكُورَ، وَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، تَرَكُوا مَذْهَبَهُمْ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَالْمُحْسِنِينَ - وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى -: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: شَهِدْت شُرَيْحًا وَأَتُوهُ مِنْ مَتَاعٍ، فَقَالَ: لَا تَأْبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ؟ قَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ قَالَ: لَا تَأْبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ؟ قَالَ أَيُّوبُ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنْ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ، إنْ كَانَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ أَيُّوبُ: وَسَأَلَ عِكْرِمَةَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي فَهَلْ عَلَيَّ مُتْعَةٌ؟ قَالَ: إنْ كُنْت مِنْ الْمُتَّقِينَ، فَنَعَمْ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: كُلُّ مُسْلِمٍ هُوَ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ، فَهُوَ بِقَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَّقِينَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، وَإِيمَانِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحْسِنِينَ - وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُخْلِدَهُ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ.

فَكُلُّ مُسْلِمٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مُحْسِنٌ مُتَّقٍ، مِنْ الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ.

وَلَوْ لَمْ يَقَعْ اسْمُ " مُحْسِنٍ، وَمُتَّقٍ " إلَّا عَلَى مَنْ يُحْسِنُ وَيَتَّقِي فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ: لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مُحْسِنٌ، وَلَا مُتَّقٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَنْ دُونَهُ مِنْ تَقْصِيرٍ، وَإِسَاءَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْمُحْسِنِينَ، وَلَا مِنْ الْمُتَّقِينَ.

فَكَانَ عَلَى هَذَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: ٢٣٦] {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: ٢٤١] فَارِغًا وَلَغْوًا وَبَاطِلًا، وَهَذَا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَهُ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦] وَ {مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: ٢٧] وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: ٧٢] وَ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ٩٥] وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَلَا فَرْقَ.

فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>