نا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ طَارِقًا كَانَ جَعَلَ ثَعْلَبًا الشَّامِيَّ عَلَى الْمَدِينَةِ يَسْتَخْلِفُهُ، فَأَتَى بِإِنْسَانٍ اُتُّهِمَ بِسَرِقَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى اعْتَرَفَ بِالسَّرِقَةِ، فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاسْتَفْتَاهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَقْطَعْ يَدَهُ حَتَّى يُبْرِزَهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَا إنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا إقْرَارُهُ فَقَطْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَخْذَهُ بِإِقْرَارٍ هَذِهِ صِفَتُهُ لَمْ يُوجِبْهَا قُرْآنٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَقَدْ صَحَّ تَحْرِيمُ بَشَرَتِهِ وَدَمِهِ بِيَقِينٍ، فَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَإِنْ اسْتَضَافَ إلَى الْإِقْرَارِ أَمْرٌ يَتَحَقَّقُ بِهِ يَقِينًا صِحَّةُ مَا أَقَرَّ بِهِ - وَلَا يُشَكُّ فِي أَنَّهُ صَاحِبُ ذَلِكَ - فَالْوَاجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْقَوَدُ - مَعَ ذَلِكَ - عَلَى مَنْ ضَرَبَهُ - السُّلْطَانَ كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - لِأَنَّهُ ضَرَبَهُ ظَالِمًا لَهُ دُونَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ ضَرْبٌ - وَهُوَ عُدْوَانٌ - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: ١٩٤] الْآيَةَ، وَلَيْسَ ظُلْمُهُ، وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِغَيْرِهِ، بِمُسْقِطِ حَقِّهِ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي ظُلْمِهِ لَهُ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ، وَيُعْطِي هُوَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَهَكَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ، فِي السَّارِقِ يُمْتَحَنُ فَيُخْرِجُ السَّرِقَةَ بِعَيْنِهَا: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعُ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: دَفَعَهَا إلَيَّ إنْسَانٌ أَدْفَعُهَا لَهُ، وَإِنَّمَا اعْتَرَفْتُ لِمَا أَصَابَنِي مِنْ الضَّرْبِ: فَلَا يُقْطَعُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَبِهِ يَقُولُ.
وَأَمَّا الْبَعْثَةُ فِي الْمُتَّهَمِ وَإِيهَامُهُ دُونَ تَهْدِيدٍ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ فَحَسَنٌ وَاجِبٌ: «كَبَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ الْيَهُودِيِّ - الَّذِي ادَّعَتْ الْجَارِيَةُ الَّتِي رَضَّ رَأْسَهَا - فَسِيقَ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى اعْتَرَفَ فَأَقَادَ مِنْهُ» .
وَكَمَا فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إذْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ وَأَسَرَّ إلَى أَحَدِهِمْ، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَوَهِمَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ، ثُمَّ دَعَا بِالْآخَرِ فَسَأَلَهُ فَأَقَرَّ، حَتَّى أَقَرُّوا كُلُّهُمْ: فَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّهُ لَا إكْرَاهَ فِيهِ، وَلَا ضَرْبَ.
وَقَدْ كَرِهَ هَذَا مَالِكٌ، وَلَا وَجْهَ لِكَرَاهِيَتِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ مَحْظُورٌ، وَهُوَ فِعْلُ صَاحِبٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكُرْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute