للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أصل هذه الآداب الذي ترجع إليه، وينبوعها الذي تفجّرت منه، رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب، التي كتبها إلى الكتّاب يوصيهم فيها، وهي:

أما بعد، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفّقكم وأرشدكم! فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. ومن بعد الملوك المكرمين أصنافا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرّفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات ألى أسباب معايشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتّاب في أشرف الجهات أهل الأدب، والمروءة، والعلم، والرواية، بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلادهم. لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النّعمة عليكم! وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة، منكم أيّها الكتاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمّات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الحكم، ومقداما في موضع الإقدام، ومحجما في موضع الإحجام، مؤثرا للعفاف، والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيّا عند الشدائد، عالما بما يأتي من النوازل، ويضع الأمور مواضعها، والطوارق أماكنها. قد نظر في كل فنّ من فنون العلوم فأحكمه، فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار يكتفي به، يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره؛ فيعدّ لكل أمر عدّته وعتاده، ويهيىء لكل وجه هيئته وعادته.

فتنافسوا يا معشر الكتّاب، في صنوف الآداب، وتفقّهوا في الدّين، وابدأوا

<<  <  ج: ص:  >  >>