، وتخيّره بالبيان النيّر، وباللّفظ العذب الشّهيّ، والمعنى الشّريف البهيّ؛ فإن الكلام إذا كان حسنا، جعلته الحكماء أدبا، ووجدت الرّواة إلى نشره سببا، حتّى يصير حديثا مأثورا، ومجدا مذكورا، وداخلا في أسمار الملوك، وسوقا من أسواق المتأدّبين، ووصلة في المجالس، وزيادة في العقل، وشحذا للسان، وترهيفا للقلب، وتلطيفا للفكر، وعمارة للصّدر، وسلّما إلى العظماء، وسببا إلى الجلّة الكبراء. وإذا لم يكن اللّفظ رائعا، والمعنى بارعا، وبالنّوادر موشّحا، وبالملح مجلوّا، لم تصغ له الأسماع، ولم تنشرح له الصّدور، ولم تحفظه النّفوس، ولم تنطق به الأفواه، ولم يخلّد في الكتب، ولم يقيّد بالدّرس، ولم يجذل به قائل، ولم يلتذّ به سامع. ومتى لم يكن كذلك كان كلاما ككلام اللّغو، ومعاني السّهو، وكالهجر «١» الذي لا يفهم، والمستغلق الذي لا يعلم.
وليس- أبقاك الله- شيء أحوج إلى الحذق، ولا أفقر إلى الرّفق، من الشّكر النّافع، والمديح النّاجع، الذي يبقى بقاء الوشم، ويلوح كما يلوح النّجم. كما أنّه لا شيء أحوج إلى وسع الطّاقة، وإلى الفضل في القوّة، وإلى البسطة في العلم، وإلى تمام العزم- من الصّبر. وعلى أن الشّكر في طبقات متفاوتة، ومنازل متباينة؛ وإن جمعها اسم، فليس يجمعها حكم؛ فربّما كان كلاما تجيش به الصّدور، وتمجّه الأفواه، وتجدف به الألسنة، ويستعمل فيه الرّأي المقتضب، والخاطر المحتار، والكلام المرتجل، فيرمى به على عواهنه، وتبنى مصادره على غير موارده، لا يتعذّر فيه الشّاكرون لانتفاع المنعمين، كما تعذّر المنعمون لانتفاع الشّاكرين. وليست غاية القائل إلا أن يعدّ بليغا مفوّها، أو يستزيد به إلى نعمه السّالفة نعما آنفة؛ أو ليس إلا ليغترّ كريما، أو يختدع غنيّا لا يتفقّد ساعات القول، ولا يتعرّف